اقتباس
وبهذا اقتدى شيخنا الحويني في خطبه؛ يصحح المفاهيم ويقوِّم المعوج، فتسمعه في الدقيقة السادسة من خطبة: "شروط العمل الصالح" وهو يقول: "ويخطئ كثيرًا من يقول: فلان ذهب إلى مثواه الأخير، مثواه الأخير؛ الذي هو القبر! لا، القبر ليس...
إذا نظرت إليه كعالم، فإنه من نوابغ محدثي عصرنا الحديث، وإذا راقبته كخطيب أبهرك ما ترك من مئات الخطب والمحاضرات والدروس القيمة المفيدة التي ألقاها على مدى عقود من الزمان، إنه المحدِّث المتقن والخطيب المجاهد: "أبو إسحاق الحويني"، والذي نتناول في هذه الحلقة من سلسلة: "خطباء في الميزان" جانبًا واحدًا من جوانب تميزه، وهو كونه "خطيبًا وواعظًا ومحاضرًا".
وقد سردنا في الجزء الأول من هذا المقال: نبذة مختصرة عن سيرته -لا يكتمل استيعابنا لتكوينه الخطابي إلا بها-، ثم ذكرنا بعدها اثنين من عوامل قوته كخطيب، وكانتا:
أولًا: جمعه بين العلم والتأثر والتأثير.
ثانيًا: التحامه بواقع أمته.
وموعدنا الآن مع مجموعة أخرى من عوامل تميز تجربته الخطابية، لعلنا نقتدي به فيها كخطباء نعتلي المنابر:
ثالثًا: تقعيد القواعد وتأصيل الأصول:
ولوضع القواعد والأصول فوائد عظيمة؛ فبدلًا من أن تلقن جمهورك الأحكام حكمًا حكمًا قائلًا هذا حلال وذاك حرام... هذا يقبله الإسلام وذاك يرفضه... بدلًا من ذلك تعطيهم قاعدة وأصلًا يحتكمون إليه ويقيسون عليه، وهذا ما كان يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كمثل قوله: "كل شراب أسكر فهو حرام"([1])، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الولاء لمن أعتق"([2])، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"([3])...
فبجانب كون القاعدة تغني عن كثير كلام في بابها، ويُحترَز بها من النسيان، فإنها كذلك تصون عن الحيرة والالتباس، فتجعل الأمر واضحًا في العقل، بل وتقيم الحكم مع دليله فينتفي الشك والغموض.
وشيخنا -رحمه الله- كان من رواد هذا المجال في عصرنا، فتسمعه يُقَعِّد ويؤصِّل في بداية خطبة: "حكم إمامة المرأة"([4]) فيقول: "أما بعد: فإن نصوص الوحي جميعًا قرآنًا وسنة عظَّمَت خمسة أشياء، سماها العلماء بالضرورات الخمس؛ أي التي لا يستغني المرء قط عن واحدة منها، وقد أحاطها الشرع بسياج متين من الأوامر والنواهي، وعظَّمها غاية التعظيم، حتى أن نصوص الوعيد ونصوص الإثابة كلها تنصب في النهاية لخدمة الضرورات الخمس، أما هذه الضرورات فهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال...".
كذلك تجده في الدقيقة التاسعة من خطبة: "منزلة التوبة"([5]) يبرز قاعدة أخرى ويشرحها ويضرب لها الأمثلة، وهي: الفرق بين الركن والشرط، فيقول: "والشرط إذا سقط، سقط العمل كالركن تمامًا، الشرط والركن يتفقان في حبوط العمل بدونهما، مع فرق جوهري بينهما: الركن جزء من الشيء؛ كالركوع والسجود وتكبيرة الإحرام والقيام بالنسبة للصلاة... الشرط: شيء خارج عن العمل لكن لا يتم العمل إلا به؛ كالوضوء للصلاة، الوضوء ليس جزءًا من الصلاة، لكن الوضوء عبادة مستقلة لا تصح الصلاة إلا بها، ولذلك يقول العلماء: الوضوء شرط لصحة الصلاة، لا يقولون ركنًا...".
رابعًا: القوة في الدفاع عن حياض الشريعة:
وهذا من أبرز خصائص الخطيب المخلص الموفق؛ "القوة في الصدع بالحق"، يروي عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- فيقول: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"([6]).
ولقد كان خطيبنا مثالًا يحتذى في هذا؛ فتسمعه يقول في خطبة: "جزاء المخالفة"([7])، وفي الدقيقة الخامسة عشر منها: "أنا شديد الاستغراب؛ ما هي الجاذبية في الكرسي؟! لماذا يبدِّل المرء جلده إذا ركب كرسي الحكم في أي وزارة أو في أي مؤسسة، ما الذي جرى... (لفلان وفلان)؛ حتى يقول هذا وذاك: أن الختان لا أصل له في الشريعة... كيف قال هذا الكلام؟ وكيف ساغ أن يقول هذا الكلام؟!... يعني الشافعية عندما أوجبوا الختان؛ ختان الإناث كانوا واهمين جميعًا! لم يكن معهم ثمة دليل..."، ثم انطلق -رحمه الله- يبين حجته ودليله.
ومرة أخرى تراه يواجه الباطل ويفنِّد شبهات الجاهلين في التدليل على جواز بناء المساجد على القبور بقصة أبي بصير، فتسمعه يقول في الدقيقة الخامسة عشر من خطبة: "التوحيد أولًا": "الطواف بالقبور كفر، لكن الطائف الذي يطوف، (هذا) الذي فيه التفصيل، هل الطائف بالقبر يكفر أم لا؟ نقول: لا يكفر حتى تبلغه الحجة، أما الفعل كفعل كفر، واذهب إلى أي ضريح من الأضرحة الموجودة في المساجد واسمع الى ما يقوله الناس؛ من طلب الغوث والمدد من هذا الميت!"...
خامسًا: قطع الخطبة للفائدة أو الضرورة:
فتجد شيخنا في خطبة: "جزاء المخالفة" وفي آخر الدقيقة السابعة عشر منها، يقطع خطبته لرؤية من يرتكب منهيًا عنه؛ وهو: تخطي الرقاب، فقال الشيخ: "الأخ الذي يتخطى الرقاب، اجلس، لماذا تتخطى الرقاب؟! لا، لا تتخطى الرقاب"، ثم عاد فضيلته إلى موضوع خطبته.
وقدوته في هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن بسر قال: كنت جالسًا إلى جنب المنبر يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اجلس فقد آذيت وآنيت"([8]).
ويروي جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فيقول: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فجلس، فقال له: "يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، (ثم جعلها -صلى الله عليه وسلم- قاعدة عامة) فقال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما"([9]).
سادسًا: الحرص على تصحيح المفاهيم المغلوطة:
فكم من مفاهيم خاطئة منتشرة في أوساط المسلمين، وإن من أولى مهمات الخطيب أن يصححها، وهذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وديدنه، بل هو -أيضًا- صنيع القرآن الكريم الذي رد كل افتراء وفنَّد كل شائعة وصحح كل مفهوم مغلوط بالحجة والدليل والبرهان، كقول الله -تعالى-: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)[البقرة: 247]، وقوله -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)[المائدة: 18] وقوله -تعالى-: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[الرعد: 26]...
وبهذا اقتدى شيخنا في خطبه؛ يصحح المفاهيم ويقوِّم المعوج، فتسمعه في الدقيقة السادسة من خطبة: "شروط العمل الصالح"([10]) وهو يقول: "ويخطئ كثيرًا من يقول: فلان ذهب إلى مثواه الأخير، مثواه الأخير؛ الذي هو القبر! لا، القبر ليس هو المثوى الأخير، المثوى الأخير هو الجنة أو النار"، وصدق الشيخ.
ويفنِد فضيلته ذريعة المحتجين بالقدر على معاصيهم، الذين يقولون: "إن الله قدَّر علينا المعصية، فكيف لنا أن نخالف قدَر الله؟!"، فيقول وهو يتحدث عن الندم كشرط من شروط التوبة، في خطبة: "منزلة التوبة"([11]): "ترى هل يندم حقًا من يحتج بالقدر على ما فعل؟! كثير من الناس يقع في هذه الورطة، جبري المعاصي قدري الطاعات، يحتج بالقدر على العصيان، ولا يفعل هذا أحد قط له عقل، لا أقول له دين؛ لأن الأمم الكافرة وضعت قوانين ليست من وحي السماء حتى عندها... هذه الأمم وضعت تشريعات وعقوبات للمعاصي؛ رجل سرق يضعون له عقوبة... شرب الخمر في بعض البلاد (يضعون) له عقوبة...
ترى بهذا الكلام المفهوم ألا يكون خلق السماوات والأرض وإرسال الرسل وإنزال الكتب من العبث؟!... أنا أقول لا يوجد إنسان له عقل أصلًا يقبل بهذا لأنه أول الرافضين له؛ هؤلاء الذين يقولون ذلك لو أمر أحدهم امرأته بعمل أو عبده أو خادمه ففعل عكس ما يريد لعاقبه"...
سابعًا: ضرب الأمثال لتوضيح المقال:
وصدق من قال: "بالمثال يتضح المقال"؛ فكلامك النظري -أخي الخطيب- يبقى جمادًا لا روح له، حتى تضرب له مثلًا عمليًا ماديًا حسيًا فتدب فيه الروح ويتحول إلى كائن حي يستطيع أن ينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم فيستقر فيها ويستوطنها، ولقد كان هذا أيضًا منهجًا نبويًا بل وقرآنيًا([12]).
وقد أجاد شيخنا -رحمه الله- في هذا المجال كعادته، فتسمعه في خطبة: "منزلة التوبة" وفي الدقيقة السادسة منها يُقَعِّد قاعدة قائلًا: "وقد يتجاور الضدان فتحملهما المجاورة على الوفاق"، ويتبعها بضرب مثال يقرِّبها ويوضحها ويبعث فيها الروح قائلًا: "ومثال ذلك: خاصية النار: الإحراق، خاصية الماء: التبريد والإطفاء، فلو وضعت الماء جنب النار كان من خاصية الماء الإحراق؛ خاصيه الماء في الإطفاء تضعها جنب النار تغلي، فتشوي (مثل) النار، ما الذي جعل الماء كالنار؟! المجاورة"... يقصد أن الماء البارد إذا وضعته على النار حتى يغلي، يحرق الجلد كما تفعل النار... فكان مثاله أروع توضيح وأبلغ شرح لكلامه.
[1])) رواه البخاري (242)، ومسلم (2001).
[2])) رواه البخاري (456)، ومسلم (1504).
[3])) رواه مسلم (366).
[4])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=ILTfE_6ls5I&t=335s
[5])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=DZ8q6QeTt9s&list=PLZbyN8Td38XisC6o_NS_RGznSD3B3ppoo&index=9
[6])) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1709).
[7])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=Lh6Z6NMtVf8
[8])) رواه أبو داود (1118)، وابن حبان واللفظ له (2790)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود).
[9])) رواه البخاري (930)، ومسلم واللفظ له (875).
[10])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=9vqVZhDron4&t=20s
[11])) وقع هذا في آخر الدقيقة الثالثة عشر من الخطبة المذكورة.
[12])) قد فصَلنا هذا -بفضل الله تعالى- في مقال بعنوان: "الخطيب وفن ضرب الأمثال"، وهذا رابطه بجزئيه:
الجزء الأول: https://khutabaa.com/ar/article/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D9%88%D9%81%D9%86-%D8%B6%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84-21
الجزء الثاني: https://khutabaa.com/ar/article/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D9%88%D9%81%D9%86-%D8%B6%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84-22
التعليقات