روافد الفكر القبوريِ (3)

ماجد بن سليمان الرسي

2025-08-18 - 1447/02/24
عناصر الخطبة
1/دعم المستعمرين للقبوريين 2/أمثلة من دعم المستعمرين للقبوريين 3/خداع المستعمرين للقبوريين للاستفادة منهم

اقتباس

فأقاموا عدة أضرحة وقباب على مسافات متقاربة في ذلك الطريق المراد سلوكه، ثم أشاعوا الشائعات أن في تلك الأضرحة أولياء صالحين، وأنه قد شوهد من كراماتهم كذا وكذا، فانتشرت الإشاعات في الآفاق، وذاعت الأخبار في كلِّ مصرٍ وعراقٍ، فصارت تلك الطرق...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه -تعالى- خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، وأرسل الرسل لذلك قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25]، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزمر: 65 - 66]، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النساء: 48].

 

أيها المؤمنون: تقدم في الخطب الماضية ذكر ستة روافد من روافد الفكر القبوري في الأمة الإسلامية، والتي يجب العلم بها، واليوم نتكلم بما يسر الله عن الرافد السبع ونفرده بالخطبة لأهميته.

 

عباد الله: ومن عوامل بقاء الفكر القبوري العامل السابع: دعم المستعمرين الـمُخرِّبين لهذا الفكر؛ لتحقيق مآربهم الاستعمارية، فلم يكن المحتلون الإنجليز والفرنسيين قبل الساسة أقل ذكاءً عن الأحزاب السياسية الحاكمة بغير ما أنزل الله، فإنَّ الإنجليز لما أدركوا دور الفكر الصوفي في تخدير مشاعر الناس وصرف الأنظار عن مزاحمتهم أو حتى الإنكار عليهم؛ اجتهدوا في دعم الفكر الصوفي القبوري ليحتلوا بلاد المسلمين، "ولهذا حرصت سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية، مما مَكَّنها بالتالي من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها، وتوجيهها إلى الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر، فما كان من سلطات الاحتلال إلا أن احتضنت الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها"(من مقال: "سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل" لعبد العزيز مصطفى)، فسهُلت السيطرة على تلك البلاد.

 

وقد قام أولئك القبوريون الدراويش برد الجميل لأولئك المحتلين الغزاة، فكانوا يُضفون الشرعية على وجودهم، يسوِّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في مصر قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر!، وكان مِن هؤلاء شيخ الطريقة "السمانية": محمد إبراهيم الجمل.

 

وقال الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله-: "وسِرْ ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تَرَ القبابَ البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال... واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المستعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعدما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف، فكل مستعمر يَبني قبة أو قبَّتين من هذا النوع؛ ليأمن على مزارعِهِ السرقة، ويستغني عن الحُرَّاس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان -الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها، وتعاهدها بالتبييض والإصلاح.

 

وقد يَـحـضُر المستعمر معهم الـزَّردة -وهي نوع من الاحتفالات تقام عند قبور مَن يوصفون بالأولياء-، ويشاركهم في ذبح القرابين؛ ليقولوا عنه إنه مُــحَبٌّ في الأولياء، خادمٌ لهم، حتى إذا تمكَّن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغَ عليهم نزعًا للأرض من أيديهم، وإجلاءً لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المستعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنَّات، زيادة على الوسائل الكثيرة التي انتزعوا بها الأرض من أهلها" انتهى بتصرف (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي).

 

أيها المسلمون: والفرنسيون فعلوا هذه الخرافة ليس عن اقتناع بها، بل هو من باب الحيلة على الجزائريين؛ حتى يمتنعوا عن التَّعَدي على ممتلكات أولئك المستعمرين، التي هي في الحقيقة أراضي الجزائريين، سلبها الفرنسيون المستعمرون وأعطوها للمستعمرين ليستثمروها في الزراعة، فانظر إلى أي حدٍّ وصل تأثير الخرافة على هؤلاء الصوفية القبورية المنتسبين للإسلام، أضاعوا التوحيد، فأضاعوا دينهم ودنياهم!.

***

وقال الإمام الإبراهيمي -رحمه الله: "اِبحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في استعمال هذا النوع الذي يسمَّى "الطرق الصوفية"، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جلية في الاستعمار الإنكليزي، فإن الاستعمار الفرنسي ما رَسَتْ قواعده في الجزائر وفي شمال أفريقيا على العموم وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها، ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: "إنَّ كَــسْب شيخ طريقة صوفية أنفعُ لنا من تجهيز جيشٍ كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوَّتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب، أما كلمة الشيخ فإنها تَجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضًا"، ثم قال الشيخ الإبراهيمي: "وما زال الاستعمار بالجزائر يسمِّي هؤلاء المشايخ أحباب فرنسا".

 

وقال الشيخ أحمد حماني-رحمه الله-: "وكانت عبادة الأضرحة قد ازدهرت في ظل الاستعمار حتى بلغ الأمر بالمستعمرين الكبار أن يجعلوا في حقولهم ضريحًا لـسيدي عبد القادر يحرس لهم أموالهم، ويخافه العامة أكثر من خوفهم من الله، ويكون حارسًا لما نهبوه من الشعب" انتهى بتصرف (فتاوى الشيخ العلامة أحمد حماني).

 

وقال الباحث د. علي بن محمد الدخيل الله، في كتابه "التيجانية": وفي رسالة للمارشال (بوجو) أول حاكم فرنسي للجزائر إلى شيخ الطريقة التيجانية، ذات النفوذ الواسع جاء فيها: "أنه لولا موقف الطريقة التيجانية المتعاطف لكان استقرار الفرنسيين في البلاد المفتوحة حدثًا أصعب بكثير مما كان".

 

عباد الله: ومن أمثلة ذلك أيضًا عند الفرنسيين ما ذكره مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية)، فقد ذكر قصة غريبة، قال: "ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس، أن رجلًا فرنسيًّا دخل في الإسلام وسمى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعُيِّن إمامًا لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل سيد أحمد الضريح، ثم خرج مهوِّلًا بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتمًا، فاتَّــبع القوم البسطاء قوله، ولم يُدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881م"(التصوف بين الحق والخلق، لمحمد فهر شقفة).

 

عباد الله: انظروا كيف اعتقد أولئك الدراويش في هذا الميت أنه يعلم الغيب من حيث لا يدرون؟! وقال الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي -حفظه الله-: "وقد سعى النَّصارى الصَّليبيون في القرن الماضي في نشر هذه الخرافات، وصرفوا الناس عن دينهم إلى الوثنية، وعما يجب عليهم تجاه أولئك المستعمرين، بتزيين ما يفعلونه عند القبور.

 

حتى إن بعض الجزائريين أخبرني أنَّ الفرنسيين لما استولوا على الجزائر كانوا يعمدون إلى بعض المشاهد والأضرحة التي يُنسب أصحابها إلى الصلاح، فيجمعون الناس لها ثم يوجهون المَدفع إليها، مُظهرين لهم أنهم يريدون إصابته وتدميره، وقد ملؤوه بارودًا دون ذخيرة مكرًا، ثم يطلقون عليه، فيدوي صوت المدفع، حتى يظن الحاضرون أنه قد أصابه، ثم ينظرون فإذا هو باق مكانه، فيزيد تعلقهم به واعتقادهم فيه!.

 

وذكر الشيخ أحمد بن حسن الباقوري المصري الأزهري (ت 1405هـ) في فتوى له في النَّهي عن زخرفة القبور وبناء القباب والـمساجد عليها: أن أحد كبار الشرقيين حدَّثه عن بعض أساليب الاستعمار في آسيا، فكان مما ذكره له أن المستعمرين كانوا يضطرون إلى تحويل القوافل الآتية من الهند إلى بغداد، عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد لهم فيه حاجة وغاية، فكانوا يسعون جاهدين في صرف القوافل عن اتجاهها الأول إلى الاتجاه الجديد، فلا يستطيعون ذلك، حتى اهتدوا إلى حيلة جعلت تلك القوافل تغير اتجاهها إلى وجهتهم المرادة، فأقاموا عدة أضرحة وقباب على مسافات متقاربة في ذلك الطريق المراد سلوكه، ثم أشاعوا الشائعات أن في تلك الأضرحة أولياء صالحين، وأنه قد شوهد من كراماتهم كذا وكذا، فانتشرت الإشاعات في الآفاق، وذاعت الأخبار في كلِّ مصرٍ وعراقٍ، فصارت تلك الطرق عامرة مأهولة!، وقد ذكر هذه القصة الشيخ الألباني -رحمه الله-، وعزاها إلى الباقوري كما في (تحذير الساجد ص 148- 149)" انتهى كلامه (مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد وعند القبور).

 

فالحاصل أن تعظيم القبور والأضرحة قد كان سببًا رئيسًا لتسلط الأعداء على المسلمين، وتعطيل عمارة الأرض بالإسلام بما يزيد عن قرن من عمر الأمة الإسلامية، والله المستعان.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

 

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله -سبحانه وتعالى- أمركم بأمر عظيم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182]

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life