عناصر الخطبة
1/سبب تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على غيرها 2/تغليظ الظلم في الأشهر الحرم 3/فضل شهر محرم وما ينبغي فيه 4/عاشوراء يوم نجاة موسى وبني إسرائيل 5/استحباب صوم يوم عاشوراء وفضلهاقتباس
قوله: "شَهْرُ اللَّهِ" إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم، قال القاري: "الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم"، ولكن قد ثبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم، لا صومه كله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: فالله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ويصطفي من البقاع ما يشاء كما اصطفى مكة والمدينة، ويصطفي من الشهور والأيام ما يشاء، كما اصطفى رمضان وعرفة وعاشوراء، واصطفى من الكلام ما يشاء فاصطفى ذكره، فالله يصطفي ما يشاء من الزمان والمكان، وله الحكمة البالغة في ذلك.
قَالَ أهل العلم: وَتَفْضِيلُ الأَمَاكِنِ وَالأَزْمَانِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: دُنْيَوِيٌّ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْضِيلٌ دِينِيٌّ، رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهَا بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ، كَتَفْضِيلِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ... فَفَضْلُهَا رَاجِعٌ إلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ فِيهَا.
فإن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".
والمحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما وتأكيدا لتحريمه، وقوله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، عن ابن عباس في قوله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر؛ فعظموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل"(انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير -رحمه الله-، تفسير سورة التوبة).
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ"، قوله: "شَهْرُ اللَّهِ" إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم، قال القاري: "الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم"، ولكن قد ثبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم، لا صومه كله، وقد ثبت إكثار النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصوم في شعبان كذلك.
عباد الله: شهر الله المحرم شهر معظم عند الله، تعظم فيه عقوبة الذنب، فاحذروا من الذنوب صغيرها وكبيرها، وتتكاثر فيه الحسنات، فاجتهدوا في العبادة فيه، فكل ما عظمه الله فهو عظيم مبارك.
اللهم بارك لنا في العمل الصالح، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: فمن الأيام الفاضلة في شهر محرم يوم عاشوراء، الذي اختصه الله بالفضل، فنجى الله موسى ومن معه، وأغرق آل فرعون، حيث أن موسى -عليه السلام- أوحى الله إليه أن يسري ببني إسرائيل قبل الفجر؛ هربا من فرعون وبطشه، وأن يسير جهة البحر، فخرج ومن معه ممن آمن من بني إسرائيل، فنذر به فرعون فخرج في إثرهم ليقتلهم، وخرج بجيش عظيم، فأتبعوهم مشرقين، ووصل موسى ومن معه البحر، وهو لا يدري كيفية النجاة، حتى لحق بهم فرعون وجيوشه.
فلما رأوهم (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61]، يعني: سيمسكون بنا ويحيطون بنا فلا مفر، فالبحر أمامنا، والجيش خلفنا، قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62]، كلام الواثق بربه، الذي لم ير منه إلا كل توفيق وسداد، فلما اقترب فرعون، أوحى الله إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء: 63]، وأيبس الله أرض البحر، فنزل موسى ومن معه من المؤمنين، وأتبعهم فرعون بجيوشه، فلما تكامل بنو إسرائيل خروجا، وقوم فرعون نزولا، أطبق الله عليهم البحر، فغرقوا جميعا.
فكانت آية عظيمة امتنَّ الله بها على بني إسرائيل، فقال: (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)[الأعراف: 141]، وقال: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)[البقرة: 50]، فلما رأى موسى هذا النصر المبين صام ذلك اليوم، وكان يوم عاشوراء، وصامته بنو إسرائيل من بعده، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة قال لليهود: "نحن أحق بموسى منكم"، فأخوة النبوة والدين أقوى من أخوة النسب، فصامه -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه.
وكان صيامه أول سنة واجبا على الجميع، فلما فرض صيام رمضان في السنة الثانية صار صيام عاشوراء سنة، ولقد رغَّب في صيامه -صلى الله عليه وسلم-، وأخبر أن من صامه كان كفارة لذنوبه سنة كاملة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: "يُكفِّر السنة الماضية".
ونحن في هذه السنة سيوافق يوم عاشوراء يوم السبت وهو الغد، فلا تفرطوا في صيامه، ويستحب أن يصام معه اليوم التاسع؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- مخالفا لليهود: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، وهو هذا اليوم، ولا يكره صيام يوم عاشوراء منفردا ولو وافق يوم السبت.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
التعليقات