عظات وعبر من الحر الشديد

بندر بليلة

2025-08-16 - 1447/02/22
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/بعض دلائل قدرة الله تعالى في الكون 2/عبر وعظات في حر الصيف 3/بعض مظاهر اليسر في العبادات عند اشتداد الحر 4/الحث على مواساة البؤساء والمستضعفين من المسلمين 5/التحذير من التسخط والضجر من الحر وسائر الابتلاءات

اقتباس

اعلموا -رحمكم الله- أن التسخط والضجر على شدة الحر من الاعتراض على قضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وأن ما يقع في هذا الكون من شيء إلا لحكمة ومصلحة، وفائدة ومنفعة، فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، واحفظوا قلوبَكم وألسنتَكم مما يُنقِص إيمانَكم، ويَخدِش توحيدَكم...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله خلَق الخلقَ وقدَّر الأقدارَ، وقسَّم الأرزاقَ، وكتَب الأعمارَ، نحمده -سبحانه- ونشكره، أبدَع الأكوانَ وأجرى الأنهارَ، بسَط الأرضَ وشقَّ البحارَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، سخَّر الشمسَ والقمرَ والليلَ والنهارَ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المجتبى ونبيه المختار، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان بالبكور والأسحار.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا ألَّا شيء يقع في هذا الكون إلا بتقرير الله ومشيئته، وحكمته وإرادته، من ليل ونهار، ورياح وأمطار، وزمهرير واحترار، وتحوُّل وتَكرار، ما يجعل المؤمنَ يُوقِن بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار؛ وذلك كله من آيات الله الكونيَّة، الدالَّة على عظيم قوته وقدرته، وسعة علمه وحكمته، ولطيف مشيئته ورحمته، وأن كل شيء عنده بمقدار؛ (إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آلِ عِمْرَانَ: 190-191].

 

عبادَ اللهِ: مَنْ مِنَّا الذي لم يُؤْذِه حرُّ الصيفِ؟! وَمَنْ مِنَّا مَنْ لم يَلْفَحْ وجهَه لهيبُ الشمسِ؟! كلنا وجد نصيبه من ذلك، قَلَّ أو كَثُرَ، إنه واعظ الصيف الذي يذكر الله به عباده حر المحشر وعذاب النار، فعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ. قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ : فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ، أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ في الْعَرَقِ، ‌فَمِنْهُمْ ‌مَنْ ‌يَكُونُ ‌إِلَى ‌كَعْبَيْهِ، ‌وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا". قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (أخرجه مسلم).

 

أيها المسلمون: إن شدة الحر من الآيات التي يرسلها الله إلى عباده، تخويفا وذكرى، موعظة عبرة؛ (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)[الْإِسْرَاءِ: 59]، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا ‌رَبِّ، ‌أَكَلَ ‌بَعْضِي ‌بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير"(مُتفَق عليه)؛ فالسعيد أيها المؤمنون من تزود من حر الدنيا لحر الآخرة، ومن صبر على العبادة في الهواجر؛ لينعم بالنعيم المقيم يوم تبلى السرائر؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التَّحْرِيمِ: 6].

 

عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: مَنْ صام يومًا في سبيل الله باعَد اللهُ وجهَه عن النار سبعينَ خريفًا"(مُتفَق عليه)، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "صوموا يومًا شديدًا حَرُّهُ، لحَرِّ يومِ النشورِ، وصلُّوا ركعتَين في ظلمة الليل لظلمة القبور"(أخرجه أبو نعيم في الحلية).

 

واعلموا -رحمكم الله- أن ما يصيب المؤمن فيه من شدة ولأواء، وجهد وإعياء كله مُدوَّن مكتوب، مقيَّد محسوب، عندَ مَنْ لا تضيع عنده القُرُبات، ولا تُفقَد عنده الطاعاتُ؛ به تُكفَّر السيئاتُ، وتُضاعَف الحسناتُ، وتُرفَع الدرجاتُ، فعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المؤمنَ مِنْ وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا سَقَمٍ ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته"(أخرجه مسلم)، وأن الأعمال يضاعف أجرها ويزاد ثوابها، وتثقل موازينها بقَدْر ما قام بقلوب أصحابها من نية وإخلاص، وتجلُّد واصطبار، قال ابن الأثير -رحمه الله-: "والاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر".

 

ومن رحمة الله بِعِبَادِهِ أن شرَع لهم فيه من الأعمال ما يطيقون، ولم يكلفهم ما يشق عليهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر فأَبْرِدُوا بالصلاة؛ فإنَّ شدةَ الحَرِّ مِنْ فَيحِ جهنمَ"(مُتفَق عليه)؛ والإبراد بالصلاة تأخيرها إلى آخر وقتها حين يخف حر الظهيرة، قبل دخول وقت التي تليها، ويقاس عليه ما كان من جنسها من العبادات، مما يجوز فيه التأجيل؛ فمن كان عليه قضاء صيام من رمضان، أو كفارة صيام أو نحوها جاز له أن يؤخره إلى أيام البرد، إذا شق عليه القضاء في الحر؛ يدل على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "‌كَانَ ‌يَكُونُ ‌عَلَيَّ ‌الصَّوْمُ ‌مِنْ ‌رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا في شَعْبَانَ"(مُتفَق عليه)، والمبادَرة أفضل.

 

فاحمدوا الله -عبادَ اللهِ- على سائر الظروف والأحوال، واشكروه على ما هيأه لكم من الوسائل والأسباب، التي خفف بها عنكم عناء الحر وشدته، وسمومه ولفحته، من الظلال وأجهزة التبريد والمصائف، وتفقدوا إخوانكم الفقراء والمعوزين، وخففوا عنهم ما يجدونه من شدة الحر ولهيب الشمس؛ كل حسب قدرته واستطاعته، ومن ذلك سقيا الماء البارد في هذه الأجواء الملتهبة؛ فهي من أفضل الصدقات كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

واذكروا إخوانًا لكم في الدين، انضم إلى ما لحقهم من شدة الحر ألم الفقد ونقص في الأموال والأنفس والثمرات؛ فاللهمَّ ارفع عنهم ما حل بهم، اللهمَّ أبدل خوفهم أمنا، وحزنهم فرحًا، وجوعهم شبعا، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز.

 

أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، كل شيء بفعله وإرادته، نحمده -سبحانه- ونشكره، على جزيل فضله ونعمته، وكريم عفوه ومغفرته، والصلاة والسلام على صفوة رسله وخيرته، وعلى آله وصحبه من أهل الفضل ومودته، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الفصل وبعثته.

 

أما بعدُ: فاعلموا -رحمكم الله- أن التسخط والضجر على شدة الحر من الاعتراض على قضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وأن ما يقع في هذا الكون من شيء إلا لحكمة ومصلحة، وفائدة ومنفعة، فاتقوا الله -عباد الله-، واحفظوا قلوبكم وألسنتكم مما يُنقِص إيمانَكم، ويَخدِش توحيدَكم؛ فإن من تحقيق التوحيد الرضا والتسليم لأحكام الله الشرعيَّة، وسننه الكونيَّة.

 

ثم صلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]؛ فاللهمَّ صل وسلم وزد وبارك على عبد ورسولك نبينا محمد، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، اللهمَّ فرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهمَّ أطل عمره في صحة وعافية، ونعمة سابغة ضافية، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده الأمين لِمَا فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، وعز ورفعة للإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ كن لإخواننا المستضعَفين مؤيدًا وظهيرًا، ومُعينًا ونصيرًا، اللهمَّ انصرهم في فلسطين على الصهاينة الغاصبين، اللهمَّ أحصهم عددًا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدًا.

 

اللهمَّ احفظ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، اللهمَّ احرسهم بعينك التي لا تنام، واكنفهم بركنك الذي لا ينام، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ ارزقنا الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند الرخاء، ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به؛ فعافيتك أوسع لنا أرحم الراحمين، فاللهمَّ قنا عذابك يوم تعبث عبادك.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life