لا حرج على من اتبع السنة في الحج

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2025-06-17 - 1446/12/21
التصنيفات: الحج
عناصر الخطبة
1/ وجوب الإخلاص والمتابعة. 2/ التيسير بشرط الدليل. 3/ التحذير من التساهل. 4/ اتباع الرسول ﷺ قولًا وعملاً.

اقتباس

وَلْيُقتَصَرْ في الأَخذِ بِالرُّخَصِ عَلَى مَا يَسُوغُ لِحَاجَةٍ أَو ضَرُورَةٍ، وَلْيُجتَنَبْ مَا عَدَا ذَلِكَ، فَإِنَّ فَتحَ بَابِ الرُّخَصِ لِلنَّفسِ فَتحٌ لِبَابِ فِتنَةٍ لَهَا، وَتَحقِيقُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لا يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ سُنَّتِهِ...

الخطبة الأولى:

 

فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 

أيُّها المسلمون: يَستَعِدُّ كثيرٌ من المسلمين للحجِّ إلى بيت الله الحرام، بين مُفتَرِضٍ ومُتَنَفِّلٍ، وحاجٍّ عمّن لم يَحُجَّ، ومُهدٍ حَجَّتَهُ لمُتَوَفًّى غَالٍ عليهِ، وكلُّهم يُريدون الأجر العظيم ومُضاعف الحسنات، ويرجون تكفير الذنوب ومحو السيئات.

 

ولعظم هذه الشعيرة وعظم غاية من يريدها؛ فإنه يجب على كلِّ حاجٍّ أن يعلم أنَّ كلَّ عملٍ ليكون مقبولًا عند الله ويُؤجَرَ عليه صاحبه، لا بد أن يتحقق فيه شرطان: الإخلاص لله فيه، وأن يكون على ما جاء به رسولُه، قال -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

 

وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق عليه: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ”، وقال -عليه الصلاة والسلام-: “مَن أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ”(رواه الشيخان)، وفي رواية: “مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ”، وقال -عليه الصلاة والسلام-: “صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي”(متفق عليه)، وقال في الحج خاصةً: “لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ...”(رواه مسلم).

 

وإنه لما استقر هذا المعنى العظيم في أذهان الصحابة -رضي الله عنهم- وفَقِهُوهُ، فقد حرصوا على اتباع السنة والأخذ عن رسول الله؛ ففي الحديث الطويل في صفة حج رسول الله، والذي رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: فقدِمَ المدينة بشرٌ كثيرٌ كلُّهم يلتَمِسُ أن يأتمَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل مثل عمله... إلى أن قال: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشي، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به... الحديث.

 

ومن هذا يُعلم -أيها المسلمون-، أن الأصل في كلِّ مناسك من مناسك الحج، أن يأتي بها المسلم على ما جاء عن رسول الله وصحَّ عنه، عالمًا في قرارة نفسه أن الخير كل الخير واليسر كل اليسر، هو فيما جاء -عليه الصلاة والسلام- به وعَمِلَهُ، وأن الشريعة كلها مبنية على التيسير، وليس في شيء مما جاءت به حرجٌ ولا مشقةٌ ولا ضيقٌ ولا تعسيرٌ، إلا على من كان في قلبه حرجٌ لضيقِه بأوامر الله ونواهيه، وعدم اتساع صدره لتحمل أمانة التكاليف، ولهذا فهو يتوهم أو يوهمه الشيطان أن في بعض الأعمال الصالحة مشقةً وحرجًا، وأنه في حاجة إلى أن يبحث عن الأيسر والأسهل، ولو وعى وتفكر، لعرف أنه إنما يبحث عن هواى نفسه، منقادًا للخمول والكسل، وإلا فإن راحته الحقيقية وسعادته الأبدية، إنما هي في اتباع السنة والأخذ بالعزيمة، ما لم يكن ثم ما يدعوه للأخذ بالرخصة من مرض أو ضعف أو عجز، أو حاجة أو ضرورة.

 

وحينئذٍ فإنه لا بأس أن يأخذ بالرخصة لأن الله تعالى يحب ذلك.

 

أجل -أيها المسلمون- إن الأخذ بالرخص الواردة بالدليل الصحيح الصريح، أو المتفق عليها بين العلماء، مما يحبّه الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَن تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَن تُؤْتَى عَزَائِمُهُ”، وفي رواية: “كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ”(رواهما الإمام أحمد وصححهما الألباني).

 

 

نَعَم -أَيُّها المُسلِمُونَ-، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَن تُؤتَى رُخَصُهُ عِندَ الحَاجَةِ إِليهَا أَوِ الضَّرُورَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَيسَ بِمُسَوِّغٍ لِمَا قَد يَكُونُ عَلَيهِ بَعضُ النَّاسِ مِنَ تَسَاهُلٍ ظَاهِرٍ في أَعمَالِ الحَجِّ خَاصَّةً، بِدَعوَى التَّيسِيرِ وَدَفعِ الحَرَجِ، مُحَتَجِّينَ بِقَولِهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- في المُتَّفَقِ عَلَيهِ: “افعَلْ وَلا حَرَجَ”.

 

ذَلِكُم أَنَّ قَولَهُ: “افعَلْ وَلا حَرَجَ” لَيسَ عَلَى إِطلاقِهِ، وَلَيسَ الأَمرُ فِيهِ مَفتُوحًا لِكُلِّ مَن شَاءَ لِيَأخُذَ بِمَا شَاءَ دُونَ شَرطٍ وَلا قَيدٍ، وَلَكِنَّهُ قَد جَاءَ جَوَابًا لِمَن سَأَلُوهُ في يَومِ النَّحرِ عَن تَقدِيمِ بَعضِ أَعمَالِ ذَلِكَ اليَومِ عَلى بَعضٍ، وَلَيسَ فيهِ لِمَن تَأَمَّلَ مُطلَقُ الإِذنِ بِتَركِ شَيءٍ مِنَ المَنَاسِكِ أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، بَل فِيهِ النَّصُّ عَلى فِعلِ مَا يَجِبُ في وَقتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ الإِذنُ بِتَركِ تَرتِيبِ أَعمَالِ يَومِ العِيدِ كَمَا رَتَّبَهَا النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.

 

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ، وَلْيُقتَصَرْ في الأَخذِ بِالرُّخَصِ عَلَى مَا يَسُوغُ لِحَاجَةٍ أَو ضَرُورَةٍ، وَلْيُجتَنَبْ مَا عَدَا ذَلِكَ، فَإِنَّ فَتحَ بَابِ الرُّخَصِ لِلنَّفسِ فَتحٌ لِبَابِ فِتنَةٍ لَهَا، وَتَحقِيقُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لا يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ سُنَّتِهِ وتَرَكِ أَقوَالِهِ وَمُجَانَبَةِ أَفعَالِهِ، وَاتِّبَاعِ الهَوَى وَقَولِ فُلانٍ وَفُلانٍ بِحُجَّةِ أَنَّ قَولَهُم أَيسَرُ وَأَسهَلُ، فَإِنَّهُ لَيسَ أَحدٌ أَرحَمَ بِالخَلقِ بَعدَ خَالِقِهِم مِن سَيِّدِ الخَلقِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-، وَلَقَد حَذَّرَ العُلَمَاءُ مِن جَمعِ الرُّخَصِ المُختَلَفِ فِيهَا وَتَقدِيمِهَا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ التَّيسِيرِ، بَل نَصُّوا عَلَى تَحرِيمِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ.

 

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنُحَقِّقْ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ، بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصدِيقِهِ فِيمَا أَخبَرَ، وَاجتِنَابِ مَا نَهَى عَنهُ وَزَجَرَ، وَأَلاَّ نَعبُدَ اللهَ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ.

 

(لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ).

 

وَاعلَمُوا أَنَّهُ وَإِنْ لم يَكُنْ لَدَى المُسلِمِ شَكٌّ أَنَّ التَّيسِيرَ مِن أَهدَافِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ العَظِيمَةِ، إِلاَّ أَنَّ الوَاجِبَ أَن يَكُونَ التَّيسِيرُ في حُدُودِ مَا دَلَّت عَلَيهِ الأَدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَ: “اِفعَلْ وَلا حَرَجَ” هُوَ نَفسُهُ الَّذِي قَالَ: “لِتَأخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم”.

 

وَبَينَ هَذَينِ القَولَينِ يَضبِطُ المُسلِمُ نَفسَهُ وَيَزِنُ عَمَلَهُ وَيَقِيسُ حَالَهُ، فَالأَصلُ أَن يَفعَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ في وَقتِهَا وَمَكَانِهَا، وَعَلَى صِفَتِهَا الَّتي جَاءَت عَنِ النَّبيِّ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-، فَإِنِ اضطُرَّ أَوِ احتَاجَ فَلَهُ أَن يَتَرَخَّصَ بَعدَ سُؤَالِ الرَّاسِخِينَ مِن أَهلِ العِلمِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثمَ عَلَيهِ).

 

أَمَّا أَن تُترَكَ أَحكَامُ العَزَائِمِ المَبنِيَّةُ عَلَى الدَّلِيلِ بِحُجَّةِ التَّيسِيرِ عَلَى النَّاسِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِم في الحَرَجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا هُوَ إِلاَّ نَقضٌ لأِحكَامِ الشَّرعِ بِمُجَرَّدِ الاستِحسَانِ، وَاتِّباَعًا لِمُشتَهَيَاتِ النُّفُوسِ وَتَمَاشِيًا مَعَ ضَعفِهَا، وَايمُ اللهِ مَا ذَاكَ بِالتَّيسِيرِ وَلا هُوَ مِن بَابِهِ، وَلَكِنَّهُ ضَلالٌ وَفَهمٌ أَعوَجُ، وَصَاحِبُهُ وَاقِعٌ في الحَرَجِ مِن حَيثُ ادَّعَى رَفَعَ الحَرَجِ، وَعَلَيهِ الإِثمُ وَالوِزرُ، وَعِبَادَتُهُ نَاقِصَةٌ إِن لم تَبطُلْ وَيَذهَبْ أَجرُهَا، فَاللهَ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- بِالاتِّبَاعِ، وَإِيَّاكُم وَالتَّسَاهُلَ وَالتَّميِيعَ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمَالَكُم).

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life