عناصر الخطبة
1/بعض فضائل وخيرات كلمة التوحيد 2/اقتضاء شهادة التوحيد أن محمدا رسول الله 3/الثمن الغالي الثمين لشهادة التوحيد 4/بعض وجوه عظمة كلمة التوحيداقتباس
إنها الكلمة التي قامت بها الأرضُ والسماواتُ، وخُلقت لأجلِها جميعُ المخلوقاتِ، وبها أرسَل اللهُ -تعالى- رُسُلَهُ وأنزَل كتبَه وشرَع شرائعَه، ولأجلها نُصبت الموازينُ، ووُضعت الدواوينُ، وعليها نُصبت القِبلةُ، وأُسستِ الملةُ، وهي كلمةُ الإسلامِ ومفتاحُ دارِ السلامِ، وهي حقُّ اللهِ على جميع المكلَّفينَ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ، إخوةَ الإيمانِ: فإن جماع الوصايا وملاكها، وبلوغ الآمال وإدراكها إنما يكون بتقوى الله؛ فهي معقد الأمر وزمامه، ومبتدؤه وختامه، فالسعيد من ارتدى أثوابها في جميع أوقاته، قال عز قائلًا حكيمًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
مَعاشِرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: إن أعظم ما غُمرت به القلوب وعُمِّرت به الجوانحُ، ولهجت به الألسنةُ، وتمثَّلت بمقتضاه الجوارحُ كلمةُ الإخلاصِ والتوحيدِ "لا إله إلا الله"، إنها الكلمة التي شهد الله بها لنفسه، وأشهد عليها أفضل خلقه، فقال -سبحانه-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 18]، فهي أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد بأجل مشهود به.
إنها الكلمة التي قامت بها الأرضُ والسماواتُ، وخُلقت لأجلِها جميعُ المخلوقاتِ، وبها أرسَل اللهُ -تعالى- رُسُلَهُ وأنزَل كتبَه وشرَع شرائعَه، ولأجلها نُصبت الموازينُ، ووُضعت الدواوينُ، وعليها نُصبت القِبلةُ، وأُسستِ الملةُ، وهي كلمةُ الإسلامِ ومفتاحُ دارِ السلامِ، وهي حقُّ اللهِ على جميع المكلَّفينَ، وعنها يكون سؤال الله للأولين والآخرين، هذه الكلمة الجليلة الشأن "لا إله إلا الله"، يراد بها أنَّه لا يستحق أحدٌ مَهمَا سمَا مكانُه، وجلَّ في أنفُس الخَلْق شانُه أن يصرف له وجه من وجوه العبودية؛ لأنَّه لا يعبد إلا من اتصف بالربوبية الكاملة المطلقة، وليس ذلك إلا لله؛ لأن له جل شانه وتقدس سلطانه الكمال المطلَق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وكل من سواه فإنَّه محل الضعف والافتقار، وموضع الحاجة والاضطرار، فهو لذلك أهل أن يعبد وحده دون غيره، وحين نتأمل ذلك المفهوم العظيم لتلك الكلمة الجليلة المعنى، الممتدَّة الأثر، ندرك أنَّه بها وحدها تتحقق حرية الإنسان، وبها يحصل الانعتاق من عبودية كل مخلوق؛ حيث يقر المؤمن بمعبود واحد مستحق للعبادة وحده، لا ينثني القلب ولا ينحني القالب إلا لله، ولا يعبد المرء إلا خالقه ومولاه، ذلك الإله العظيم الذي يخضع له القلوب قبل أن تسجد له الجباه، وتلهج بألوهيته وربوبيته الألسن والأفواه، إنها كلمة جامعة لمعاني ما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله عز ولج؛ لتعانق الربوبية والألوهية وتلازمهما تعانق الأفنان وتطابق الأجفان، إذ الربوبية تستلزم الألوهية، والألوهية تتضمَّن الربوبية، كما أن شهادة ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ تستلزم شهادةَ أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، فلا تتم شهادة ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الإله هو المألوه المعبود، المستحق لغاية الحب بغاية التعظيم، ولا تتم عبودية الله ومحبته إلا بمحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ولا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة رسوله المبلغ عن الله ما يحبه وما يكرهه؛ باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فصارة محبة الله مستلزمة لمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتصديقه ومتابعته.
ولَمَّا كانتِ الجنةُ دارُ النعيم المقيم عاليةَ المكان، غاليةَ الأثمان، كان ثمنها هذه الكلمة العظيمة الكريمة، وذلك حين تستقر معانيها في القلوب، فترتوي بروائها وتشرق بضيائها، حدَّث أنسُ بنُ مالكٍ -رضي الله عنه- أن معاذًا -رضي الله عنه- كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرَّحْلِ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ: "يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ".
ويكون صاحبُها أسعدَ الناسِ بشفاعةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، مَنْ أسعدُ الناسِ بشفاعتِكَ يومَ القيامةِ؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه".
بارَك اللهُ لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، وجعل تقواه عدة لنا وجُنَّة، أقول ما سمعتُم، وأستغفر الله لي ولكم إنه كان عفوًا غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد للهِ أهلِ الحمدِ ومستحِقِّ الثناءِ، مُسبِغِ العطاءِ ومُسبِلِ الغطاءِ، حمدًا يصوب حياهُ ويَعذُب جناهُ، ويَلُوحُ ثناهُ، والصلاة والسلام على سيد الخلق وخاتم الأنبياء، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الخيرة الأصفياء.
أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ والمؤمنات: فإن كلمة التوحيد والإخلاص ليست مجرد كلمة عابرة تتحرك بها الشفاه، وتتردد في الأفواه؛ إنها كلمة عظيمة آثارها، وشجرة يانعة ثمارها؛ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا في السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إِبْرَاهِيمَ: 24-25]، إنها كشجرة وارفة، تلقي عندها النفوس المرهقة بأعباء الحياة أثقالها، فتدني عليها ثمارها وتنشر ظلالها، إذا استقر معناها في أغوار القلب وأعماقه استقر الوجدان، واطمأنت النفس، وسكنت الروح، ففاضت على الصدر انشراحًا، وعلى الفؤاد انفساحًا، في زمن متسارع الخطى كثير المتغيِّرات، يمور بأمواج من المُؤثِّرات والمكدرات، إنها في هجير الحياة ومسيرها سلوان المصدور، وأمان الخائف، تهب على القلوب هبوب النسيم البارد في اليوم الصائف، وإن قلبًا امتلأ بعقيدة التوحيد ليسكن عند مجاري الأقدار، ويطمئن عند تقلُّبات هذه الدار؛ لأنَّه يوقن أن له إلهًا عظيمًا كل شيء عنده بمقدار، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم"، فألهجوا بها ألسنتكم ذاكرين، واملؤوا بها قلوبكم موقنين.
اللهمَّ أَحْيِنَا على التوحيدِ، وتوفَّنا على كلمة التوحيد، وَاكْتُبْ لنا بفضلِكَ الحسنى والمزيدَ.
ألَا وأَكثِرُوا من الصلاة والسلام على سيد الخلق وصفوة الأنام، في هذا اليوم وسائر الأيام، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ مِنْ أفضلِ أيامِكم يومَ الجمعةِ؛ فأكثِرُوا عليَّ مِنَ الصلاةِ فيه؛ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ"، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ وأَنعِمْ على سيد الأولينَ والآخِرينَ وإمامِ المرسلينَ، ورحمةِ اللهِ للعالمينَ، نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعينَ، وعن الخلفاءِ الراشدينَ، والسادةِ المهديينَ؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبينا أجمعين، وعنَّا معهم بفضلك ومنك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واجعل هذا البلد المبارك آمِنًا مطمئنًا محفوظًا يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ احفظ بلاد الحرمين المملكة العربيَّة السعوديَّة، اللهمَّ احفظ محضن الحرمين ومهوى أفئدة المسلمين من كيد الكائدين، ومن حسد الحاسدين ومكر الماكرين، اللهمَّ احفظ ولاة أمرها وعلماءها وحرماتها وعقيدتها ومقدساتها، اللهمَّ احم جنودها واحرس حدودها، ورجال أمنها يا ربَّ العالمينَ، ووفق القائمين على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بقاصديهما يا ربَّ العالمينَ، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احفظهم بعنايتك، واكلأهم برعايتك، اللهمَّ واجزهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ إنَّا نسألك أن تحفظ بلاد المسلمين، اللهمَّ إنَّا نسألك أن تصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ كن لإخواننا في فلسطين، اللهمَّ اجبر كسرهم، وتول أمرهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ إنَّا نسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، وإنك أنت علام الغيوب.
عبادَ اللهِ: استديموا فضل ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذكره؛ سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
التعليقات