من نفحات الهجرة النبوية المشرفة

الشيخ د محمد أحمد حسين

2025-07-01 - 1447/01/06
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/نفحات من ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم 2/دور المسجد في حياة المجتمع المسلم 3/الحث على عمارة المسجد الأقصى وحمايته 4/دروس من الهجرة النبوية الشريفة 5/دعوة للتفاؤل ونبذ اليأس والقنوط

اقتباس

إن الهجرة النبويَّة الشريفة كانت نقلة نوعيَّة في مسار الدعوة الإسلاميَّة؛ فمن الضَّعْف والاضطهاد إلى القوة والأمن والأمان، من مجتمع يطارده الكفرُ بكل أشكاله في مكة إلى مجتمع الإيمان ودولة الإسلام بأُخوَّة الإيمان بين المهاجرين والأنصار تقوم في المدينة المنوَّرة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، صدَق وَعدَه ونصَر عبدَه وأعزَّ جنده وهزَم الأحزابَ وحدَه، لا شيء قبلَه ولا شيء بعدَه، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، قال وقوله الحق: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التَّوْبَةِ: 40].

 

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا، صاحب الذكرى العطرة، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغُر الميامين، ومَنْ سار على نهجهم واقتفى أثرَهم واتبَّع سُنَّتَهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على الشهداء والمكلومين، والأسرى والمعتقَلين، والقائمين الساجدين المرابطين في المسجد الأقصى المبارَك وفي كل أرض من ديار المسلمين.

 

وبعد، أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بَيْت الْمَقدسِ: يعيش المسلمون في هذه الأيام المباركة ذكرى عزيزة على نفوس المؤمنين؛ إنها ذكرى الهجرة النبويَّة الشريفة، تلك الذكرى التي غيَّرت مجرى التاريخ الإنسانيّ والتاريخ الإسلامي في نقلة ربانية لتوحيد الله -تعالى-، وانتصار الحق على الباطل مهما تمالأت وتكاثرت قوى هذا الباطل.

 

إنها عناية الله -تعالى- التي تَحُفُّ المرسَلينَ والمؤمنينَ في كل وقت وحين، إنها عناية الله التي كانت مع رسوله الأكرم وحبيبنا الأعظم -صلى الله عليه وسلم- يوم أُخرِجَ من مكة مهاجرًا إلى الله، رافقته العناية وحَفَّته الرعاية وانتصر في كل مواقع الشدة التي يراها المتابعون أنَّها مواقع للخطر حقيقيَّة.

 

لقد انتصر -عليه الصلاة والسلام- في خروجه من بيته، وانتصر -عليه الصلاة والسلام- في الغار مع صاحبه أبي بكر، وانتصر -عليه الصلاة والسلام- في طريقه إلى المدينة المنوَّرة، ولعل في قصة سُراقة بن مالك ما يَروي لنا تلك العناية التي حَفَّت برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لا تحزن إن الله معنا.

 

يُدرِكُ الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- أن سُراقة ربما ينالهم بِشَرٍّ، ورُبَّما يخبر عنهم أعداء الله؛ أعداء الإسلام والمسلمين، أعداء رسول الله، أعداء المؤمنين، ولكنَّها رعاية الله ومعية الله، فتغوص أقدام فرس سُراقة في الصحراء ويُدرك أن محمدًا –-عليه الصلاة والسلام- وأن صاحبه في عنايةٍ من الله -تعالى-، فيطلب منهم الدعاء والأمان قائلًا: سأرد عنكم كل طلب؛ ليدعو له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتخرج أقدام فرسه من الأرض، ويعود قائلًا لكل ملاحق للمهاجر الصادق: لقد كفيتكم هذه الطريق؛ فارجعوا؛ إنها عناية الله.

 

وَإِذَا العِنَايَةُ لَاحَظَتْكُ عُيُونُهَا *** نَمْ فَالمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: إن الهجرة النبويَّة الشريفة كانت نقلة نوعيَّة في مسار الدعوة الإسلاميَّة؛ فمن الضَّعْف والاضطهاد إلى القوة والأمن والأمان، من مجتمع يطارده الكفرُ بكل أشكاله في مكة إلى مجتمع الإيمان ودولة الإسلام بأُخوَّة الإيمان بين المهاجرين والأنصار تقوم في المدينة المنوَّرة، تقوم على العدل، تقوم على الإنصاف، تقوم على احترام الإنسان كإنسان كرمه الله -تعالى-.

 

يظهر ذلك جليًّا في وثيقة المدينة المنوَّرة التي وضعها الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- لتنظيم الحياة المدنيَّة في مجتمع المدينة المنوَّرة، تلك الوثيقة التي تُعدُّ الوثيقة الدُستورية الأولى في تاريخ الدعوة الإسلاميَّة.

 

نعم، إنها الوثيقة التي راعت حقوق المسلمين، وحافظت على حقوق غير المسلمين، فأَمَّنت يهود المدينة المنوَّرة وجعلتهم ضمن المجتمع الإسلامي القائم والناشئ، فهلَّا رَاجَعَ العالمُ اليومَ هذه الوثيقةَ ووقَف على حقيقتها وتعاليمها؛ ليرحم الإنسانُ أخاه الإنسانَ، وليعرف الإنسانُ كرامةَ أخيه الإنسان؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ومن الأشياء التي فعلها نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في مجتمع المدينة إقامة المسجد النبوي الشريف الذي لا تُشد الرحال إلا إليه وإلى أخويه؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى المبارَك.

 

أقام المسجد ليكون بيت الدعوة، وبيت القيادة، وبيت العلم والتعليم، وبيت العدل والعدالة، وبيت النور الذي شَعَّ على كل أنحاء المعمورة في ذاك الزمان، ولا زال هذا النور يشع على عالمنا اليوم بمستوياتٍ متعددة.

 

أيها المسلمون: إن دور المسجد في الحياة الإسلاميَّة وفي المجتمع الإسلامي دور كبير؛ فانظروا إلى حالكم اليوم في المسجد الأقصى المبارَك كيف تأتون وتجتمعون فيه لطاعة الله -تعالى- وأنتم تُدركون كل المخاطر التي تُحدِق بالمسجد الأقصى المبارَك، ولكنه الإيمان، ولكنَّها بُشرى سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم- لكم حين سأله ذاك الصحابي الجليل: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتُلينا بعدك بالبقاء؟ ليكون الجواب قاطعًا وحاسمًا: عليك ببيت المقدس، عليك ببيت المقدس؛ فلعل الله يرزقك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون.

 

إن ذرية المسلمين هي التي تغدو إلى المسجد الأقصى وتروح، إن ذرية المرابطين هي التي تشعر بأمانة المحافظة على المسجد الأقصى عامرًا بالإسلام والمسلمين، وإن ذرية المفسدين هي التي تحاول دائمًا أن تُعيثَ الفساد وأن تنشر الخراب في المسجد الأقصى المبارَك، خاب فألهم، وطاش سهمهم؛ فللمسجد الأقصى ربٌّ يحميه، وللمسجد الأقصى مرابطون يفتدونه بالغالي والنفيس، وللمسجد الأقصى من يعمره بحول الله وقوته في جميع الأحوال والظروف.

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: إنها الهجرة النبويَّة الشريفة، تلك الرحلة المبارَكة التي حفَّتها ورَعَتْها عنايةُ اللهِ منذ بدايتها إلى نهايتها، وإلى أنْ عاد المُهَجَّرون والمهاجرون إلى مكة فاتحينَ منتصرينَ يُعلِنونَ توحيدَ الله -تعالى-؛ (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الْإِسْرَاءِ: 81].

 

ورَد في الحديث الشريف عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه"، أو كما قال، فيا فوزَ المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله، وأنتم مُوقنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ لا نبيَّ بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله، أَحبَّ لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم؛ حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه.

 

وأشهد أنَّ سيدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغُر الميامين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

 

وبعد، أيها المسلمون: تُعلمنا الهجرة دروسًا كثيرةً، لعل من أبرزها الثقة بالله -تعالى-، والثقة بأن الله -سبحانه وتعالى- ينصر عباده المؤمنين، فكما نصر نبينا في الهجرة ومعه الصِّديق الصادق، نصر المسلمين بعدها في بدر وفي العودة إلى ديارهم مكة فاتحين غانمين؛ لتتجلى أخلاق المهاجر والمهاجرين.

 

لقد عرف التاريخ موقفًا عظيمًا للحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما سجَّل التاريخ مواقف مجرمة لكثير من الغاصبين والمحتلين والغزاة والمجرمين، ذكر موقفًا يجب على البشريَّة جمعاء أن تأخذه قاعدةً وعبرة للتعامل مع بني الإنسان مهما كان لونهم أو دينهم أو جنسيتهم.

 

ماذا قال صاحب الخُلق الأكرم وصاحب الدعوة العامَّة للبشرية جمعاء لأولئك الذين أخرجوه وحاصروه وأخرجوه وطردوه من دياره مكة؟ قال لهم عند البيت الحرام: "مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وليَكونَ كذلك؛ أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، فقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ".

 

روحي فداكَ سيِّدي يا رسولَ اللهِ، وأنت تُعلِّم المسلمين جميعًا، وتُعلِّم البشريَّة جمعاء كيف تكون أخلاق الفاتح العظيم، وكيف تكون أخلاق الداعي لتوحيد رب العالمين، وكيف تُربي أصحابك على الخُلق الكريم؛ تتجاوز عن كل من أساء إليك، وتفتح قلبك للتائبين والموحدين والراجعين إلى الله -تعالى-؛ لتُعلن يومًا عظيمًا، يوم الفتح الأكبر، يوم أعزَّ الله المُهجَّرين والمهاجرين بالعودة إلى ديارهم.

 

فلا تيأسوا ولا تقنطوا أيها المُهجَّرون والمهاجرون، والذينَ تتآمر عليكم الدنيا بالتهجير، لا تيأسوا من رَوْح الله؛ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

 

نعم أيها المسلمون، نعم أيها المرابطون: نعم يا بشارة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ سنبقى هنا، وسنعيش هنا، ونُعمِّر ونَعْمُر المسجد الأقصى ما حَيينا بحول الله وقوته متأسيين بالمهاجر الأول، والداعي العظيم، والرسول الكريم؛ الذي وسعت دعوته البشريَّة جمعاء.

 

أيها المسلمون: يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ولعلنا في هذه الذكرى العظيمة نستذكر كذلك واجبنا تجاه القدس ومقدَّساتها، فعلينا جميعًا أن نشد الرحال، ولو أصابنا شيء من المشقة والتعب، ولو أصابنا شيء من الانتظار عند الحواجز، علينا أن نَعْمُر ونُعَمِّر المسجد الأقصى المبارَك.

 

علينا أن نتأسى بسيرة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي نصره الله وأخرجه الله وأعاده الله منتصرًا إلى وطنه وإلى بلده، ثم يعود مع الأنصار الذين استقبلوا الدعوة ليكون المثوى في المدينة المنوَّرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ونحن في هذه الأيام نرى الشدة تحيط بأبناء شعبنا في كل مواقعه؛ في الضفة الغربيَّة، في غزَّة، في أماكن كثيرة من هذه الأرض المبارَكة، ولكن علينا أن نصبر وعلينا أن نحتسب وعلينا أن تكون ثقتنا بالله -تعالى-؛ الذي نصر حبيبه الأكرم، ونصر جُنده في كل مواقع الإيمان؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يُخلِف وعده، وهو القائل: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 7].

 

اللهمَّ رُدَّنا إليكَ ردًّا جميلًا، وهيئ لنا وللمسلمين فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا؛ يُوحِّد صفَّنا، ويَجمَع شملَنا، وينتصر لنا، اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life