عناصر الخطبة
1/من مقاصد الزواج في الإسلام 2/الصبر وعدم إيقاع الطلاق 3/أهمية العشرة بالمعروف بين الزوجين 4/قصة تشريع الخلع 5/وصية للزوجات بالصبر على أزواجهنّ ومراجعتهم.اقتباس
هناك بعض الحالات الخاصّة لا تصلح إلا بالفراق بين الزوجين؛ فالله -تعالى- لما شرع الزواج شرع الطلاق كمخرج شرعي عندما لا يتحقق من بقاء هذه الرابطة المقاصد السامية من الزواج، بل يتحقق مع البقاء فساد عظيم...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أُمَّة محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون: روى البخاري في صحيحه: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟"، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً".
إخوة الإسلام: إن من أخص مقاصد الشريعة في الزواج: أن تبقى هذه العلاقة وتدوم، ولا تقطع، أو تُحَلّ، لأيِّ سبب؛ إلاّ أن يكون السّبب لا يمكن أن تدوم معه الحياة الزوجية، أو تترتب عليه مفسدة أكبر وأعظم، وضرر محقّق، والأصل في الحياة الزوجية هو الإرشاد إلى الصبر، وعدم إيقاع الطلاق؛ لأن الله -تعالى- يقول في محكم آياته: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء: 34- 35].
فالله -تبارك وتعالى- أرشَد إلى الصلح ابتداءً، عند الخوف من الشقاق، ولم يرشد إلى حلّ العقد، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال الله -تعالى-: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء: 128].
كما أمر الله -تعالى- الزوجين بالعشرة بالمعروف حتى مع وجود الكُرْه؛ فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].
أيها المسلمون: وفي هذا الحديث المتقدم ذِكْره، يَحكي الصحابي الجليل عبدُ الله بنُ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، أنَّ امرَأةَ ثابِتِ بنِ قَيْسٍ أتَتِ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ثابِتُ بْنُ قَيْسٍ ما أَعتِبُ عليه في خُلُقٍ ولا دِينٍ. أي: لا أطْعَنُ فيهِ دِينًا ولا خُلُقًا، ولا أعيبُهُ بِشَيءٍ يَنقُصُه مِن جِهةِ دِينِه أو خُلُقِه، لَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفرَ في الإسْلامِ.
والمَعنى: وَلَكِنِّي أُبغِضُه لِدَمامَتِه، وَقُبْحِ صُورَتِه، وأخْشى أنْ يُؤَدِّي بي هَذا النُّفورُ الطَّبيعِيُّ مِنهُ إلى كُفرانِ العَشيرِ، والتَّقصيرِ في حَقِّ الزَّوجِ، والإساءةِ إلَيه، وارتِكابِ الأفْعالِ الَّتي تُنافي الإسلامَ مِنَ الشِّقاقِ والخُصومةِ والنُّشوزِ وَنَحوَها ممَّا يُتَوَقَّعُ مِثلُه مِن الشَّابَّةِ الجَميلةِ المُبغِضةِ لِزَوْجِها أنْ تَفعَلَه.
فَقالَ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-: "أتَرُدِّينَ عليه حَديقَتَه؟"؛ أي: إذا كُنتِ تَكْرَهينَهُ كُلَّ هذه الكَراهيةِ، وَتَخشَينَ أنْ يُؤَدِّيَ بَقاؤُكِ في عِصمَتِه إلى أمرٍ مُخالِفٍ لِدينِ الإسلامِ، فَهَل تُخالِعينَهُ وَتَفتَدينَ مِنهُ نَفسَكِ بِمالٍ، فَتَرُدِّينَ عَلَيهِ حَديقَتَه الَّتي دَفَعَها لَكِ مَهْرًا؟ قالَتْ: نَعَمْ، أفعَلُ ذلك. فَقالَ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-: "اقْبَلِ الحَديقةَ وَطَلِّقْها تَطْليقةً".
وقد دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الخلع ومشروعيته، وهو فراق زوج يصحُّ طلاقه لزوجته بعوض مالي. وقد أجمع العلماء على جوازه، ومما يدل على جوازه قوله -تعالى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ)[البقرة: 229]، ويُشتَرط في الخُلع -كالطلاق- أن يكون الزوج مكلفاً، والزوج محلاً للطلاق، وأن يكون بصيغة الماضي في الإِيجاب والقبول بأن يقول الزوج: خالعتك على كذا، وتقول الزوجة: قبلتُ، فإن لم تُصرِّح بالقبول لا يقع الخلع، ولا تتحقق الفُرْقة ولا يستحق العوض.
أيها المسلمون: وهكذا يتبيّن لنا أن هناك بعض الحالات الخاصّة التي لا تصلح إلا بالفراق بين الزوجين، فالله -تعالى- لما شرع الزواج شرع الطلاق كمخرج شرعي عندما لا يتحقق من بقاء هذه الرابطة المقاصد السامية من الزواج، بل يتحقق مع البقاء فساد عظيم، وهو الأمر الذي وصفته زوجة ثابت بن قيس في شكواها؛ فإن زوجة ثابت قد وصفت للنبي -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- حالاً عُلم منه أن بقاء العلاقة بينهما يؤدي إلى مفاسد أعظم من مصالح بقائهما في ذمة واحدة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أُمَّة محمد -عليه الصلاة والسلام-. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون: ومع هذا الذي تقدم ذِكْره من جواز الخلع إذا تضرَّرت الزوجة من زوجها، إلا أننا نجد في بعض السنّة أن الرسول -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- كان يُوصي بعض الزوجات بالصبر على أزواجهنّ ومراجعتهم، حتى مع وجود الكُرْه والبُغْض؛ فقد جاء عند البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- لِعَبَّاسٍ: «يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا!».
فَقَالَ النَّبِيُّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- لبريرة: «لَوْ رَاجَعْتِهِ»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ»، قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ.
فهذا الأمر يؤكّد أن الحرص والسعي على لَمّ الشمل -حتى مع وجود الكُرْه والبغض- أمرٌ مندوب إليه، إلاّ أن هناك حالات خاصَّة كما ذكرت لا تحتمل إلَّا أن لا يكون بين الاثنين بقاء للعلاقة، وذلك هو الأصلح في حقهما، وفي الحَديثِ: تَسميةُ المُعامَلةِ السَّيِّئةِ لِلزَّوجِ كُفرًا؛ لِما فيها مِن الِاستِهانةِ بِالعَلاقةِ الزَّوجِيَّةِ، وَجُحودِ حُقوقِها المَشْروعةِ، وَهَذا يَدخُلُ في كُفرانِ العَشيرِ، وَيُنافي ما يَقتَضيهِ الإسلامُ.
الدعاء.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم