أخلاق المشتري المسلم

الشيخ د عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2025-10-03 - 1447/04/11 2025-10-15 - 1447/04/23
عناصر الخطبة
1/توجيهات ونصائح للمشتري.

اقتباس

ومن أخلاق المشتري المسلم: بشاشة الرجل وطلاقة وجهه مع البائع؛ فهذا الخلق هو أول المودة، وهو عمل من أعمال المعروف، وصدقة من الصدقات، ورسالة مرئية تشرح صدر البائع، وتحبب له...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: كان الحديث في خطبة الجمعة الماضية عن أخلاق البائع المسلم؛ فذكرنا عدداً من تلك الأخلاق الحميدة، وشيئًا من آثارها الطيبة على مال البائع وعلى دينه، وحتى تتم الصورة، وتكمل الفائدة سيكون حديثنا إليكم اليوم عن " أخلاق المشتري المسلم".

 

ضِدّانِ لمّا اسْتَجْمَعا حَسُنا *** والضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُ

 

عباد الله: إن المسلم العامل بدينه ذو أخلاق صالحة في كل مكان حلَّ فيه، ومع أي إنسان يتعامل معه؛ فهو ذو خلق كريم في بيته بين أهله وأولاده، وذو خلق سامٍ في مسجده ومع جيرانه وروَّاده، وذو خلق حسن في عمله ووظيفته مع زملائه، وهو ذو خلق فاضل في السوق مع البائعين، ومع غيرهم ممن يراهم هناك؛ لأنه في هذه السيرة الحسنة الدائمة مع كل الناس ممتثل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"(رواه أحمد)، وهذا لفظ يحمل معنى العموم.

 

فمن أخلاق المشتري المسلم: إلقاء السلام على البائع أول ما يصل إليه؛  والسلام هو تحية الإسلام، وسبب من أسباب المحبة، وعمل صالح يجلب الثواب الكثير؛ فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَشْرٌ"، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عِشْرُونَ"، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثُونَ"(رواه أحمد).

 

وقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: " إِنَّ مِمَّا يُصَفِّي لَكَ وُدَّ أَخِيكَ ثَلَاثًا: تَبْدَأُهُ بِالسَّلَامِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ".

 

وكما يشرع السلام عند اللقاء يشرع -أيضًا- عند المغادرة؛ فإذا انتهى المشتري من الشراء ألقى السلام على البائع وانصرف؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ؛ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ"(رواه الترمذي).

 

وأما إذا صافح المشتري المسلمُ أخاه البائعَ المسلم عند اللقاء فهذا عمل يمحو الخطايا؛ فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ المؤمِنَ إذا لَقِيَ المؤمِنَ فسلَّمَ عليه، وأخَذَ بيدِه فصافَحَهُ؛ تناثَرتْ خطاياهُما كما يتَناثَرُ ورَقُ الشَّجَرِ"(رواه الطبراني).

 

ومن أخلاق المشتري المسلم: بشاشة الرجل وطلاقة وجهه مع البائع؛ فهذا الخلق هو أول المودة، وهو عمل من أعمال المعروف، وصدقة من الصدقات، ورسالة مرئية تشرح صدر البائع، وتحبب له البيع لهذا المشتري؛ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّكُمْ لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخُلُق"(رواه البزار).

 

قال الشاعر:

اِلْقَ بالبِشْرِ مَن لَقِيتَ منَ النَّـ *** اس جميعاً ولاقِهمْ بالطَّلاقهْ

تَجنِ منهمْ بهِ ثمارَ عجيبٍ *** طيّبٍ طعمُهُ لذيذِ المذاقهْ

ودعِ التِّيهَ والعُبوسَ عن النَّـ *** اسِ فإنَّ العبوسَ رأسُ الحماقهْ

 

ومن أخلاق المشتري المسلم: الأخذ والإعطاء باليمين؛ فيسلم للبائع الثَّمنَ بيمينه، ويأخذ السلعة بيمينه كذلك؛ فإن استعمال اليمين في الطيبات من شعائر الإسلام؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ، وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ، وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ"(رواه ابن ماجه).

 

أيها الأحبة الكرام: ومن أخلاق المشتري المسلم -أيضًا-: تجنب الكذب؛ فالكذب من أسوأ أخلاق الإنسان، والصدق من أعظم خصاله الحسنة، وقد اتفق الدِّينُ والعقل والفطرة على قبح الكذب، وحسن الصدق، قال الله -تعالى-: (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[آل عمران:61]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].

 

عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا"(متفق عليه).

 

فمن صور كذب بعض المشترين: أن يقول: ما عندي من المال إلا مبلغ كذا- وعنده غيره-ولكنه يكذب على البائع؛ حتى يأخذ السلعة بأقل من ثمنها.

 

ومنها: أن يقول للبائع: أنا قد دفعت لك الثمن، وهو كاذب في هذا القول.

 

ومنها: أن يقول للبائع: قد وجدت هذه السلعة عند غيرك بأقل من سعرها عندك، وهو كاذب في ذلك؛ فكيف يستحل امرؤ يؤمن بالله واليوم الآخر مال البائع بهذا الظلم، وماذا ستنفعه تلك السلعة إذا أخذها بالحرام وحمل وزرها إلى يوم القيامة! وربما تكون سلعة تافهة، وقد قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(رواه أحمد).

 

ومن أخلاق المشتري المسلم: الأمانة؛ فالأمانة من صفات أهل الإيمان، ومن الأخلاق الكريمة التي تصحب الإنسان في مجالات كثيرة، فالمشتري الأمين لا يغش البائع في الثمن بأن يعطيه عملة مزوَّرة، أو غير صالحة للتبادل الشرائي، والمشتري الأمين إذا كان في عملته عيب يُعفى عنه عند بعض البائعين، ولا يعفى عنه عند آخرين؛ يبين ذلك العيب للبائع حتى يختار القبول أو الرد؛ لكيلا يخدعه ويغشه.

 

والمشتري الأمين إذا غلط البائع له فأعطاه من المبيع ما لا يستحقه، أو ردَّ له باقي عملته بأكثر من حقه؛ رد للبائع ذلك الزائد، سواء عرف الزيادة في المحل، أم في البيت؛ فقد رد الإمام ابن المبارك من فارس إلى الشام قلمًا لصاحبه نسي إعادته إليه؛ فقد قال -رحمه الله-: "استعرت قلماً بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته إلى صاحبه".

 

ومن الأمانة: حرص المشتري على سلامة السلعة وبقائها على ما اُشتريت عليه، حين يردها إلى صاحبها إذا وجد فيها عيبًا، فإذا حصل فيها شيء من العيوب التي لم تكن فيها ثم أخفاها على البائع عند ردها فهذا من الخيانة ودناءة الخُلق.

 

ومن الأمانة التي يقصر في أدائها بعض المشترين: قضاء الدين؛ فهناك من المشترين من يستدين ولا يقضي ما عليه، وهناك من يماطل في القضاء، أو ينقص الحق إذا قضى، أو يخدع الدائن في الحساب!

 

 فأين أين الخوف من الله، وأين شكر المعروف وردُّ الجميل! فالبائع حين أعطى بضاعته للمشتري دَينًا فقد أحسن إليه، وفي الشرع والعقل: أن جزاء الإحسان بالدين الوفاء.

ألا فليتق اللهَ المنكرون للديون، والمماطلون فيها مع قدرتهم على القضاء، قال الله -تعالى-: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)[البقرة:283].

 

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ" فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ"(رواه النسائي).

 

ومن أخلاق المشتري المسلم: السماحة عند الشراء، وهي: السهولة، وحسن المعاملة.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى"(رواه البخاري).

 

فمن سماحة المشتري: ألا يكثر الإلحاح على البائع بإنقاص السعر، وهو المسمى بالمماكسة، ولا يطلب من البائع أن يحلف اليمين على أنه اشترى السلعة بكذا، ولا يطلب الزيادة على الميزان إن كانت البضاعة مما يُوزَن؛ فكم يشكو بعض الباعة من تعنُّتِ بعض المشترين، وشدة إلحاحهم، وكثرة مخاصمتهم عند الشراء، وهذا مخالف للسماحة الممدوحة الواردة في الحديث.

أما إذا كان طلب المشتري من البائع النقص في ثمن السلعة بلا إلحاح ولا إطالة؛ فلا حرج في ذلك.

 

أيها الإخوة الفضلاء: ما أجمل أن يكون المشتري متحليًا بخلق النصح الأمين، الجامع بين الحكمة واللين، فمتى رأى لدى البائع منكراً نصحه على تركه بأسلوب حسن، بعيد عن لغة الاستعلاء والغلظة، قال الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125].

 

وإذا كان البائع يبيع السلعة بأنقص مما هي عليه في السوق؛ لجهله بالسعر؛ ككونه جديداً على السوق أو البيع فيه؛ فإن من النصح الصادق: إخباره بسعر تلك السلعة عند بقية البائعين.

 

ومن النصيحة التي يقل من يعملها؛ أن يزيد المشتري البائعَ مالاً على ثمن سلعته إن رأى أن السلعة تستحق أكثر من ذلك، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"(متفق عليه).

فكان جرير إذا اشترى شيئاً، أو باعه يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه، فاختر(رواه ابن حبان). 

 

وقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن جرير -رضي الله عنه-؛ أنه أرسل مولى له ليشتري فرسًا، فرأى فرسًا، فأعطى صاحبه ثلاثمائة درهم، فأبى صاحب الفرس، طالبًا الزيادة، فجاء مولى جرير وصاحب الفرس إلى جرير؛ فلما رأى جرير الفرس قال لصاحبه: "فرسك خير من ذلك، هل تبيعه بخمسمائة، فوافق الرجل، فمازال جرير يزيده حتى بلغ سبعمائة درهم أو ثمانمائة، فلما ذهب الرجل أقبل على مولاه، وجعل يلومه ثم قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم".

 

وما أحسن أن يكون المشتري مع البائعين سليمَ اللسان من السباب واللعن وبذاءة القول، بعيداً عن السخرية منهم، والاحتقار لهم، خاصة إن كان ذا مكانة عالية بمال أو جاه أو مسؤولية؛ فالمسلم الكريم يتواضع ويطرح عنه رداء الكبر، بل يرحم أولئك الباعة في الأسواق الشعبية الذين يعملون من أجل لقمة العيش النقية من الحرام، ويكفون أهاليهم وأولادهم عن الحاجة إلى الناس، وربما كان بعض الباعة من الأطفال الفقراء أو اليتامى الذين يكدحون طول يومهم من أجل القوت، فكيف يصح لمسلم أن يقسو عليهم ظلمًا، أو يغتر بغناه وقوته في وجوههم.

 

 بل لو أخطأ بعضهم في حقه؛ فإن الدين والخُلق يأمرانه بالعفو والصفح، والتجاوز، وكظم الغيظ عنهم، متذكراً قول الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *  الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:133-134]، وقولَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ"(رواه أحمد).

 

وصدق من قال:

أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي *** وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا

وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا *** وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا

وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ *** وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا

 

نسأل الله أن يجعلنا من ذوي الأخلاق الكريمة، ومن سالكي السبيل المستقيمة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

أيها المسلمون: ومن أخلاق المشتري كذلك: غض البصر، والعفة، وحفظ الحرمات، وذلك حين يكون من يقوم بالبيع امرأةً، فمن اشترى من امرأة مرغوبٍ فيها فليكن غاضًا بصرَه، غير مطيل للكلام معها، وليكن بعيداً عن كل سبب يوصله إلى الفتنة بها، قال الله -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30].

 

وهناك-أيها الكرام- ناسٌ قلَّت مروءتهم، وساءت أخلاقهم يتقصدون الشراء من النساء من أجل كثرة النظر، أو إرادة أذيتهن، أو مراودتهن،!

 

فأين الحياء من أولئك، وأين الرجولة، إذا لم يكن دين يزعهم، أو عفاف يحجزهم!

 

أما كان إذا الشراء من المرأة بنية صالحة؛ لكونها أرملة، أو محتاجة؛ فهذا عمل مشكور، وفعل محمود.

 

عباد الله: إن الأسواق الآن تعج بالمشترين، وهناك أيضًا نساء مشتريات، فنقول: إن المرأة إذا وجدت من يكفيها الخروجَ إلى السوق فبيتُها خير لها ولمَن في السوق كذلك، قال الله -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)[الأحزاب:33].

 

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا"(رواه الترمذي).

 

فإذا لم تجد من يوفر لها مطالبها من السوق فإن عليها إذا خرجت للشراء أن تتحلى بأخلاق: العفاف والصيانة والحياء والحشمة، ويوصلها إلى ذلك: أن تخرج من بيتها بحجاب شرعي كامل، ساتر لجميع أعضاء جسمها، ومنه وجهها وكفاها وقدماها، وأن يكون حجابها كثيفًا غير ضيق ولا رقيق، ولا فيه زينة تجلب الأنظار.

 

وليس من الدين والأخلاق الكريمة: أن تلفت المرأة الأنظار إليها بمشيتها المتكسرة، ولا أن تخضع بقولها مع البائعين فترقق صوتها وتحسنه، وتمزح معهم، وتطيل الكلام والبقاء عند الشراء منهم، أو أن تخلو ببائع في محل وحدهما فيه، قال الله -تعالى-: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[الأحزاب:32].

 

وقال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ"(رواه أحمد).

 

أيها المؤمنون: إن المشتري المسلم متى تحلَّى بهذه الأخلاق الكريمة ينال حسن الثواب، ويسلم في الأسواق من المشكلات، ويحصل على البضاعة الجيدة، ويكتسب أصدقاء، ويبارك الله له في سلعته، فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"(متفق عليه).

 

ختاما -أيها المسلمون- تمسكوا بهذه الأخلاق -رحمكم الله- وعلموها غيركم تفلحوا، فطوبى لمن سمع فوعى، وعمل بما دُعي إليه من الخير لصلاح الآخرة والأولى.

 

نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا.

 

وصلوا وسلموا على خير البرية..

 

المرفقات

أخلاق المشتري المسلم ( ).doc

أخلاق المشتري المسلم ( ).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات