أساليب تربية المراهق: القدوة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2025-05-30 - 1446/12/03 2025-07-12 - 1447/01/17
عناصر الخطبة
1/أهمية القدوة الحسنة في تربية المراهق 2/وسائل تحقيق القدوة الصالحة 3/آثار القدوة الصالحة على المراهق 4/نماذج في القدوة الحسنة.

اقتباس

فِي هَذَا الْجَوِّ الْمُظْلِمِ بِقُدُوَاتِ الشَّرِّ لَابُدَّ لِلْحَرِيصِينَ عَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمُ التَّرْبِيَةَ الصَّالِحَةَ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ وَسَائِلَ نَافِعَةٍ لِتَحْقِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ؛ حَتَّى يُحَاكُوهَا وَيَهْتَدُوا بِهَا، وَيَسْتَنِيرُوا بِنُورِهَا، وَيَتْرُكُوا سِوَاهَا مِنْ قُدُوَاتِ السُّوءِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُولَدُ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَيَتَقَلَّبُ فِي أَطْوَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَبَدْءًا مِنْ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ، حَتَّى تَأْتِيَ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا تَغَيُّرَاتٌ جَسَدِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً وَأَسَالِيبَ حَكِيمَةً، تُعِينُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُرَبِّينَ عَلَى تَجَاوُزِ صُعُوبَاتِهَا، وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مُرَبِّيهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ: أُسْلُوبُ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ؛ فَالْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ، وَجَعْلِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ شَبَابًا صَالِحِينَ؛ فَهِيَ الْمِثَالُ الْحَيُّ الَّذِي يَمْتَثِلُ شَعَائِرَ الدِّينِ، وَيُحْيِي السِّيرَةَ الْحَسَنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ رَأَى تِلْكَ الْقُدْوَةَ أَحَبَّ سُلُوكَهَا، وَاقْتَدَى بِأَعْمَالِهَا؛ وَلِهَذَا تَظَلُّ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ هَادِيَةً لِلنَّاسِ بِحُسْنِ سِيرَةِ صَاحِبِهَا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)[الْمُمْتَحَنَةِ: 4]، ثُمَّ قَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)[الْمُمْتَحَنَةِ: 6].

 

وَمِنْ أَهَمِّيَّةِ وُجُودِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ: أَنَّهَا تُعَدُّ عَامِلَ تَشْجِيعٍ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَسَبَبَ تَحْفِيزٍ لِتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَزَادًا نَافِعًا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَوَسِيلَةَ حَثٍّ كَبِيرٍ عَلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ.

 

فَكَمْ تَذَكَّرَ بِالْقُدُوَاتِ الْحَسَنَةِ مُتَذَكِّرٌ، وَاتَّعَظَ بِرُؤْيَتِهِمْ مُتَّعِظٌ، فَكَيْفَ إِذَا جَالَسَهُمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ مَعَهُمْ، وَتَلَقَّى عَنْهُمْ! عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟"، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَقِيَ أَحَدَ الصَّالِحِينَ اتَّعَظَ بِلِقَائِهِ شَهْرًا كَامِلًا.

 

أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ: إِنَّنَا فِي عَالَمِ الْيَوْمِ نَعِيشُ فِي وَاقِعٍ يَعِجُّ بِالْقُدُوَاتِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يُرَوَّجُ لَهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَجِدُ الْمُرَاهِقُ مَا يَدْعُوهُ لِلتَّعَلُّقِ بِهَا، أَوْ مُحَاكَاتِهَا، وَمُتَابَعَةِ أَخْبَارِهَا، لَاسِيَّمَا فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ أَوْ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، وَفِي هَذَا الْجَوِّ الْمُظْلِمِ بِقُدُوَاتِ الشَّرِّ لَابُدَّ لِلْحَرِيصِينَ عَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمُ التَّرْبِيَةَ الصَّالِحَةَ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ وَسَائِلَ نَافِعَةٍ لِتَحْقِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ؛ حَتَّى يُحَاكُوهَا وَيَهْتَدُوا بِهَا، وَيَسْتَنِيرُوا بِنُورِهَا، وَيَتْرُكُوا سِوَاهَا مِنْ قُدُوَاتِ السُّوءِ.

 

فَمِنْ تِلْكَ الْوَسَائِلِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ لِلْمُرَاهِقِينَ: اسْتِقَامَةُ الْأَبَوَيْنِ فِكْرِيًّا وَسُلُوكِيًّا؛ فَالْبَيْتُ هُوَ الْمَحْضَنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَلْقَى الِابْنُ فِيهِ قُدْوَتَهُ فَيَتَأَثَّرُ بِهَا فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"، ثَمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[الرُّومِ: 30] الْآيَةَ".

 

فَإِذَا وَجَدَ الْمُرَاهِقُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ صَلَاحًا وَتَقْوَى، وَاتِّزَانًا فِي التَّعَامُلِ مَعَ شُؤُونِ الدُّنْيَا؛ اسْتَقَامَ عَمُودُهُ وَعُودُهُ، وَاسْتَنَارَتْ بَصِيرَتُهُ وَفُؤَادُهُ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-.

 

وَإِنْ وَجَدَهُمَا عَلَى خِلَافِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمُبَايَنَةِ الدَّرْبِ الْقَوِيمِ؛ تَبِعَ سَبِيلَهُمَا، وَمَشَى فِي إِثْرِهِمَا، إِلَّا أَنْ يُهَيِّئَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهُ مُرْشِدًا صَالِحًا مِنْ غَيْرِهِمَا.

 

قَالَ الشَّاعِرُ:

مَشَى الطَّاوُوسُ يَوْمًا بِاعْوِجَاجٍ *** فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ

فَقَالَ: عَلَامَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا *** بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ

فَخَالِفْ سَيْرَكَ الْمُعْوَجَّ وَاعْدِلْ *** فَإِنَّا إِنْ عَدَلْتَ مُعَدِّلُوهُ

أَمَا تَدْرِي -أَبَانَا- كُلُّ فَرْعٍ *** يُجَارِي بِالْخُطَى مَنْ أَدَّبُوهُ؟!

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

 

وَمِنَ الْوَسَائِلِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ لِلْمُرَاهِقِينَ: اصْطِحَابُ الْمُرَاهِقِ لِزِيَارَةِ الْقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ، كَالْمَسَاجِدِ وَمَجَالِسِ الْحُكَمَاءِ وَالْمُرَبِّينَ، وَدُرُوسِ الدُّعَاةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَتَعْرِيفُهُ بِهِمْ، وَالْإِشَادَةُ بِهِمْ.

 

يَحْكِي ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ نَفْسِهِ فِي صَيْدِ خَاطِرِهِ فَيَقُولُ: "وَلَقَدْ وُفِّقَ لِي شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ نَاصِرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَكَانَ يَحْمِلُنِي إِلَى الشُّيُوخِ، فَأَسْمَعَنِي الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ مَا يُرَادُ مِنِّي، وَضَبَطَ لِي مَسْمُوعَاتِي إِلَى أَنْ بَلَغْتُ، فَنَاوَلَنِي ثَبْتَهَا، وَلَازَمْتُهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فَنِلْتُ بِهِ مَعْرِفَةَ الْحَدِيثِ وَالنَّقْلِ".

 

وَمِنَ الْوَسَائِلِ: قِرَاءَةُ الْقِصَصِ النَّافِعَةِ عَنِ الْقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي صَلَاحِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ وَفَهْمِهِمْ، وَهِمَّتِهِمْ وَعَزِيمَتِهِمْ، وَجَمْعِهِمْ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْقِصَصَ تَجْعَلُ الْمُرَاهِقَ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَيَتَأَسَّى بِهَدْيِهِمْ، وَيَجْعَلُهُمْ لَهُ نُورًا فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

 

وَمِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: "يَا غُلَامُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟"، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ لِلْمُرَاهِقِ آثَارًا دُنْيَوِيَّةً، وَثِمَارًا أُخْرَوِيَّةً، حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَعْرِفَ شَيْئًا مِنْهَا؛ لِيَحُثَّنَا ذَلِكَ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَحْقِيقِ الْقُدْوَةِ لِأَوْلَادِنَا وَطُلَّابِنَا، فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ: تَرْكُ الْأَفْكَارِ الضَّالَّةِ، وَهَجْرُ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ، وَالتَّخَلِّي عَنِ الطَّبَائِعِ الْمُنْحَرِفَةِ.

 

فَلَوْ رَأَيْتُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- كَمْ مِنْ مُرَاهِقٍ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا جَالَسَ الصَّالِحِينَ، صَارَ مِنْ أَعْلَامِ الشَّبَابِ الْمُتَّقِينَ، وَكَمْ مِنْ عَادَةٍ سَيِّئَةٍ لَدَى مُرَاهِقٍ لَفَظَتْ أَنْفَاسَهَا الْأَخِيرَةَ بَيْنَ يَدَيْ قُدْوَةٍ صَالِحَةٍ، وَابْتَدَأَتْ حَيَاةً جَدِيدَةً مِنَ النَّقَاءِ وَالصَّفَاءِ، وَكَمْ مِنْ طَبْعٍ لَئِيمٍ، اسْتُبْدِلَ بِخُلُقٍ كَرِيمٍ بِقِرَاءَةِ سِيرَةِ أُسْوَةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ جُلُوسٍ بَيْنَ يَدَيْ ذِي فَضْلٍ.

 

فَهَذَا الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لَمْ يَصْعَدْ إِلَى رُتْبَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا عَبْرَ مُجَالَسَةِ الْقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: "كُنْتُ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّي فَدَفَعَتْنِي فِي الْكُتَّابِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تُعْطِي الْمُعَلِّمَ، فَكَانَ الْمُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَخْلُفَهُ إِذَا قَامَ، فَلَمَّا خَتَمْتُ الْقُرْآنَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَكُنْتُ أُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ فَأَحْفَظُهَا".

 

وَمِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ لِلْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ: الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَلَا أَعْنِي بِالصَّلَاحِ: صَلَاحَ الدِّينِ فَحَسْبُ، بَلْ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْمُرَاهِقَ إِذَا اقْتَدَى بِالصَّالِحِينَ، أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَحْوَ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَتَرَكَ التَّقْصِيرَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَفِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الْمُتَفَوِّقِينَ، وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى هَذَا شَبَابُ الصَّحَابَةِ  -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- الَّذِينَ تَأَسَّوْا بِرَسُولِ اللَّهِ فَكَانُوا أَحْسَنَ الْأُمَّةِ نَجَاحًا فِي أَمْرِ دِينٍ وَأَمْرِ دُنْيَا.

 

عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ" وَقَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

فَاعْرِفُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- أَهَمِّيَّةَ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ لِلْمُرَاهِقِينَ، وَاسْعَوْا فِي تَحْقِيقِهَا لَهُمْ، سَوَاءٌ كُنْتُمْ آبَاءً أَمْ مُعَلِّمِينَ، وَأَبْشِرُوا بِالْآثَارِ الْحَسَنَةِ لِتِلْكَ الْقُدُوَاتِ، الَّتِي سَتُصْلِحُ -بِإِذْنِ اللَّهِ- الْبُيُوتَ وَالْمُجْتَمَعَاتِ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ تَقْوَى تُصْلِحُ الْقُلُوبَ، وَعِلْمًا نَافِعًا يُنِيرُ الدُّرُوبَ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

فَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يُخْبِرُنَا رَبُّنَا الْعَظِيمُ بِأَنَّ رَسُولَنَا مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هُوَ أُسْوَتُنَا الَّتِي بِهَا نَتَأَسَّى، وَدَلِيلُنَا الَّذِي يُرْشِدُنَا إِلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَأَسَّى فِي كُلِّ خَيْرٍ فَرَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قُدْوَتُهُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ فَسِيرَةُ نَبِيِّنَا أُسْوَتُهُ، فَفِي الصَّلَاةِ قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَقَدْ رَبَّى لَنَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ جِيلًا صَالِحًا مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَحْسَنُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِ، فَكَانُوا خَيْرَ قُدْوَةٍ مِنْ بَعْدِهِ؛ فَمِنْ أُولَئِكَ الصَّحْبِ الْأَخْيَارِ: ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- الَّذِي كَانَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا كَيْفَ اقْتَدَى، وَكَيْفَ صَارَ عَلَى طَرِيقِ الْهُدَى!

 

ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَتِهِ قَالَ: "وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْفَظُ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَيَسْأَلُ مَنْ حَضَرَ إِذَا غَابَ عَنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَكَانَ يَتَّبِعُ آثَارَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ، وَكَانَ يَعْتَرِضُ بِرَاحِلَتِهِ فِي طَرِيقٍ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ نَاقَتَهُ، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْحَجَّ، وَكَانَ إِذَا وَقَفَ بِعَرْفَةَ يَقِفُ فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ  -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-"، حَتَّى اقْتَدَى بِهِ التَّابِعُونَ، وَمَشَى عَلَى هَدْيِهِ الصَّالِحُونَ؛ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: اللَّهُمَّ أَبِقْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَا أَبْقَيْتَنِي، أَقْتَدِي بِهِ؛ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ".

 

أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: اعْرِفُوا فِي التَّرْبِيَةِ أَهَمِّيَّةَ الْقُدْوَةِ، وَاسْعَوْا فِي تَحْقِيقِ وَسَائِلِ الْأُسْوَةِ، لِمَنْ جُعِلْتُمْ لَهُمْ مُرَبِّينَ، وَصِرْتُمْ عَلَيْهِمْ أُمَنَاءَ حَافِظِينَ، مِنَ الْأَوْلَادِ وَالطُّلَّابِ وَالْأَبْنَاءِ لَا سِيَّمَا الْمُرَاهِقِينَ، وَكُونُوا لَهُمْ قُدْوَةً فِي الصَّالِحَاتِ، وَأَشِيرُوا عَلَيْهِمْ بِسُلُوكِ سَبِيلِ الْأُسْوَةِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَسَتُثْمِرُ لَهُمْ شَجَرَةُ الْقُدْوَةِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَسَتَقْطَعُ عَنْهُمْ شَرًّا كَبِيرًا؛ هَذَا جُهْدُكُمْ، وَعَلَى اللَّهِ أَجْرُكُمْ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ عَمَلَكُمْ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَسْعَى إِلَى الْخَيْرِ جَاهِدًا *** وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ تَتِمَّ النَّتَائِجُ

 

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

 

المرفقات

أساليب تربية المراهق القدوة.doc

أساليب تربية المراهق القدوة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات