أيام الحج نفحات ورحمات

ماهر بن حمد المعيقلي

2025-05-30 - 1446/12/03 2025-05-31 - 1446/12/04
التصنيفات: الحج
عناصر الخطبة
1/تهنئة الحجاج بما مَنَّ الله به عليهم 2/المحافظة على شعائر الله دليل الإيمان 3/بعض فضائل يوم عرفة 4/بيان عظمة المنهج الإسلامي 5/خطأ الحج بلا تصريح

اقتباس

لِلَّهِ على عبادِه حقوقٌ في الليل لا تؤخَّر إلى النهار، وأخرى في النهار لا تؤجَّل إلى الليل، ففرضت الشريعة العبادات، ونظمت المعاملات، وسنَّت الكفَّارات والنفقات، والحج أشهٌر معلومات، وأيامٌ معدودات، وأنساكٌ متنوعة، ومواقيت زمانيَّة ومكانية، كما أنَّ في الحج تربية على الانضباط والدقة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي جعَل البيت مثابةً للناس وأمنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

 

وأشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

أمَّا بعد، فيا معاشر المؤمنين: اتَّقوا الله كما أمركم يُنجز لكم ما وعدكم؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2-3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4].

 

حُجَّاجَ بيتِ الله الحرام: يا مَن أجبتُم نداءَ ربكم وعزمتُم على أداء فرضكم، هنيئًا لكم ما بُلِّغتُم؛ فهذا المقام وزمزم والحَجَر الأسود والمُلتزَم، وهنا تُسكَب العَبرات، وتُرفَع الدرجات، وتُغفَر الذنوب والسيئات؛ فأتمَّ الله نُسككم، وتقبَّل طاعتكم.

 

أُمة الإسلام: تكفَّل الله -تعالى- بحفظ دِينه، وجعل من الأسباب الشرعيَّة لحِفظه حفظ شعائره، فيبقى الدِّين في الناس ما بقيت فيهم شعائرهم، وتعظيم شعائر الله دليلٌ على تقوى القلب وخشيته (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]، وما من يومٍ إلَّا ونحن نُصبح ونُمسي على شعائر الله وحُرماته:

فالشهادتان: هما شرط الإسلام وشعاره. والأذان: شِعار الصلاة. والزكاة والصيام: من شعائر الإسلام.

 

ومن الشعائر العظيمة الظاهرة: شعيرة الحج والعُمرة.

 

ومن شعائر الله المكانيَّة: مِنًى وعرفة والمزدلفة، والصفا والمروة، والمقام والمُلتزَم، وبيت الله المعظَّم الذي الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه.

 

ومن عظمته وإجلاله واصطفائه ومحبته أنَّ الرب -سُبحانه- أضافه إلى نفسه فقال في مُحكم تنزيله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحج:26]؛ إنه بيت الله الحرام الذي تهوِي إليه القلوب شوقًا، وتفدُ عليه الأرواح حبًّا، بيت الله الحرام الذي بتعظيمه يعظُم الإسلام؛ فلذا كان سلفنا الصالح يُولون البيت الحرام أشرف تكريم، ويعظمونه أوفَى تعظيم.

 

وكما أنَّ الأجر فيه مضاعَف فالوزر فيه عظيم، والغُرم بالغُن، ومكة كلها حرم، وجلالها قديم؛ ففي الصحيحين أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنَّ الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض؛ فهي حرامٌ بحرام الله إلى يوم القيامة، لا يُنفَّر صيدها، ولا يُعضد صوتها، ولا يُختلى خلاها، ولا تحلُّ لقطتها إلَّا لمُنشد" (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران:97].

 

معاشر المؤمنين: وإنَّ من شعائر الله يوم عرفة وهو يوم الميثاق، وهو يوم الوفاء بالميثاق الذي أخذه الله -تعالى- على بني آدم؛ ففي مُسند أحمد أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني: عرفة- فأخرج من صُلبه كلَّ ذريةٍ ذرأها فنثرهم بين يديه كالذَّر، ثم كلَّمهم قِبلًا؛ قال: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى، شهِدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنَّا كنا عن هذا غافلين".

 

وفي يوم عرفة ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وكبريائه وعظمته فيُباهي بأهل الموقف ملائكتَه، وهو أكثرُ يومٍ يُعتِق اللهُ فيه خلقًا من النار، سواءً ممَّن وقف بعرفة، ومَن لم يقف بها من الأمصار.

 

وإذا كان أهل الموسم قد ظفروا بالوقوف بركن الحج الأعظم؛ فإنَّ لغيرهم صوم ذلك اليوم؛ فصومه يُكفِّر سنتين كما في صحيح مسلم أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده".

 

إخوة الإيمان: إنَّ تعظيم الأزمنة الفاضلة من تعظيم شعائر الله، ونحن في هذه الأيام نعيش في خير أيام العام التي أقسم الله -تعالى- بها، وفضَّلها على سواها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]؛ فعشر ذي الحجة اجتمع فيها من العبادات ما لم يجتمع في غيرها.

 

وفي صحيح البخاري أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد؛ إلَّا رجلٌ خرج يُخاطر بنفسه وماله فلم يرجِع بشيء"؛ فحثَّ -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- فيها على كل عملٍ صالح من صلاةٍ وصيام، وصلةٍ للأرحام، وصدقةٍ وقرآن، وبرٍّ للوالدَين، وتفريجٍ للكُربات، وقضاءٍ للحاجات، وسائر أنواع الطاعات.

 

ومن أعظم الأعمال في هذه الأيام: حج بيت الله الحرام؛ ففي الصحيحين أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- قال: "العُمرة إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلَّا الجنة"، ولا يكون الحج متقبَّلًا مبرورًا إلَّا إذا كان صاحبه لله مُخلصًا، ولرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ- متَّبعًا.

 

فاقتدوا برسولكم، وامتثلوا أمر ربكم، وتعرَّضوا لرحمته؛ تفوزوا برضوانه وجنَّته؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الحج:26-29].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم! إنه -تعالى- جوادٌ كريم، عفوٌّ بَرٌّ رؤوفٌ رحيم؛ فاستغفروه إنَّه كان غفَّارًا.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعد، فيا معاشر المؤمنين: خلَق اللهُ الكونَ وأبدعَه، وبناه بنظامٍ دقيقٍ فأحكمه، وكما أنَّ الله جعَل للكون نظامًا مُتقَنًا فقد جعَل للمسلم منهجًا مُحكَمًا يسير عليه في عباداته ومعاملاته وأخلاقه وسلوكه؛ فالإسلام دِينٌ منظَّمٌ في جميع شئونه يأمر بالنظام ويهتمُّ به، وبذلك تتحقَّق المصالح، وتُدرَأ المفاسد.

 

فَلِلَّهِ على عبادِه حقوقٌ في الليل لا تؤخَّر إلى النهار، وأخرى في النهار لا تؤجَّل إلى الليل، ففرضت الشريعة العبادات، ونظمت المعاملات، وسنَّت الكفَّارات والنفقات، والحج أشهٌر معلومات، وأيامٌ معدودات، وأنساكٌ متنوعة، ومواقيت زمانيَّة ومكانية، كما أنَّ في الحج تربية على الانضباط والدقة، وذلك يظهر من خلال شعائره وأركانه وواجباته وشروطه.

 

إخوة الإيمان: إن كانت هذه عناية الشريعة بتنظيم حياة المسلم وعبادته؛ فإنَّ عنايتها أعظم بسلامته وأمنه، ورفع الحرج ودفع الضُّر عنه.

 

وهذا ما تتمثَّله وتقوم به المملكة العربيَّة السعوديَّة حيث بذلت كل وسعها، وسخَّرت إمكاناتها وأجهزتها، وهيَّأت كل أسباب التسهيل والراحة، والأمن والسلامة عبر أنظمتها التي تهدف إلى سلامة الحجيج وأمنهم، وتيسير أداء مناسكهم تحت أصولٍ شرعيةٍ راسخة في حفظ النفس والمال؛ لذا فإنَّ الحج بلا تصريح هو إخلالٌ بالنظام، وأذيةٌ للمسلمين، وتعدٍّ على حقوق الآخَرين، وجنايةٌ على ترتيبات وُضعت بدقةٍ متناهية؛ فحريٌّ بمَن قصد المشاعر المقدَّسة تعظيم هذه الشعيرة العظيمة، واستشعار هيبة المشاعر بتوحيد الله وطاعته، والتحلِّي بالرفق والسكينة، والتزام الأنظمة والتعليمات، والبُعد عن الفسوق والجدال والخصام، ومراعاة المقاصد الشرعيَّة التي جُعلت للسلامة والمصلحة العامَّة.

 

حَفِظَ الله حُجاج بيته الحرام، وتقبَّل حجَّهم، وسائر أعمالهم، وردَّهم إلى أهليهم سالمين، وبالمثوبة غانمين.

 

ثم اعلموا -معاشر المؤمنين- أنَّ الله أمرَكُم بأمرٍ كريمٍ ابتدأ فيه العزيز الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]؛ اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللهمَّ عن الخُلفاء الراشدين أبي بكرٍ وعُمر وعُثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلام المسلمين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً سخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا.

 

اللهمَّ وفِّق إمامنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

 

اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهده الأمين إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين، وإلى ما فيه خيرٌ للعباد والبلاد.

 

اللهمَّ وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبُّه وترضاه.

 

اللهمَّ احفظ علينا دِيننا وقيادتنا وأمننا.

 

اللهمَّ وفِّق رجال أمننا، والمرابطين على حدودنا وثغورنا، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم يا قويُّ يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ فرِّج هم إخواننا في فلسطين، اللهمَّ كُنْ لهم مُعينًا ونصيرًا ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهمَّ تقبَّل شهداءهم، وداوِ جرحاهم، واشفِ مريضهم، وأطعم جائعهم.

 

اللهمَّ عليك بالصهاينة المحتلِّين المعتدين، اللهمَّ شتِّت شملهم، وفرِّق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم بقوتك وعزَّتك يا قوي يا عزيز يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى من ظلم الظالمين، وعدوان المحتلين، واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدِّين.

 

اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

 

ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنَّك أنت التواب الرحيم.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:180-182].

المرفقات

أيام الحج نفحات ورحمات.doc

أيام الحج نفحات ورحمات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات