عناصر الخطبة
1/من فضائل بر الوالدين 2/منزلة الأب ومكانته 3/منزلة الأم وفضلها 4/الحث ببر الوالدين وصورهاقتباس
الأبوان يحملان عشرةً من الولد، لا يكلان ولا يضجران، وعشرةُ من الولد لا يحملون أماً أو أبا؛ ولذا تجد كثيرا من الأولاد والبنات يتقاسمون الخدمة والرعاية، ويتناوبون الصلة والزيارة. ومن كما البر الإقبال عليهما بكامل الأحاسيس والاهتمام، وعدم الانشغال والتلهي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الولي الحميد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
أخرج البخاري ومسلمٌ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ المَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ َفاحْتَبَسْتُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَفُرِجَ عَنْهُمْ".
الوالدان فرجٌ لك بعد الشدة، وملاذٌ لك عند الغربة، وسببٌ في دخولك الجنة، هما اليد التي تمتد إليك في الظلام؛ لتنتشلك من وحل اليأس، وهما الصوت الذي يهمس في أذنك بالدعاء، فيفتح لك أبواب السماء.
الأب جبلٌ شامخٌ في وجهِ الرياح، وسندٌ عالٍ في دروبِ الحياةِ، فإذا ما قستْ عليك الأيامُ، وأظلمتْ عليك الليالي، وجدتَ في أبيِك قلباً ذا عزيمة وصبرٍ تسند عليه ظهرَك، ويدًا قويةً تمسحُ غبارَ الهزيمةِ عن قلبِك، ولسان حاله ومشاعر قلبه تنشدك:
غَذَوْتُكَ مَوْلوداً وعُلْتُكَ يافعاً *** تُعَلُّ بمَا أُدْنِي إليْكَ وتُنْهَلُ
إذا ليْلةٌ نابَتْكَ بالشَّكوِ لمْ أَبِتْ *** لِشَكْواكَ إلاَّ ساهِراً أتَمَلْمَلُ
كأني أنا المَطروقُ دونَكَ بالذي *** طُرقْتَ به دُوني وعَيْنِيَ تَهْمُلُ
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- "الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ"(قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ)، الأبُ ليسَ مجردَ سندٍ مادي، بل هو بوصلةٌ تُشيرُ دائمًا إلى طريقِ الحقِ والخيرِ، وصوتٌ يُنيرُ العقلَ والروحَ، صمتهُ حكمةٌ، وكفاحهُ أملٌ، وحبّهُ أمانٌ يملأُ الفراغَ.
لا يسخط عليك والدك فتهلك، ولا يغضب عليك فتشقى، ولا يدعو عليك فتمحق بركةُ حياتك، وفي حديث أبي هريرة: "ثلاثُ دَعَواتٍ مُستجاباتٌ لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالدِ، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ المظلوم"(أخرجه أبوداود).
وإذا رضي عنك والدك، رضي الله عنك فأفلحت، ووقفت وسعدت، وعند الترمذي: "رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ".
وإذا كان أبوك شمسًا يضيء لك دروبَ الحياة، فإن أمك قمرٌ يرافقكَ في لياليها المظلمة، وتؤانسك في مخاوفها المفزعة، تُهَدئُ روعَكَ، وتُسَكّنُ آلامَكَ، وترعى شؤونك، في حضنها تجد ملاذاً، وفي صوتها تجد سكوناً، وفي دعائها تجد حصناً منيعاً.
الأم هي السند الذي لا يميل، والملاذ الذي لا يضيق، والرحمة التي لا تجف، هي مفتاحك للجنة، قال طَلْحَةُ بْنِ مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيِّ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ قَالَ: "حَيَّةٌ أُمُّكَ؟"، قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: "الْزَمْهَا"، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ مِرَارًا فَقَالَ: "الْزَمْ رِجْلَيْهَا؛ فَثَمَّ الْجَنَّةُ"، إنها المعلمة الأولى، والحبيبة التي تمنح الحب بلا شروط، والحنان بلا كتمان.
ولم أر للخـــلائق مـــــن محــلِّ *** يُهذِّبها كحِضن الأمهات
فحضْن الأمّ مدرسة تسامتْ *** بتربيةِ البنـين والبنـــــات
واخلاقُ الوليدِ تقاس حسناً *** بأخلاق النساءِ الوالداتِ
وإن الرجلَ مهما علا شأنُه اشتدتْ عزيمتُه، يظلُ طفلًا في حضنِ والديهِ، يستمدُ منهما القوةَ والحنان، فهما الهديةُ التي لا تُردُّ، والنعمةُ التي لا تُحصى، والحبُ الذي لا يشيخُ ولا يذبل، فاستمسك بهما، ولا تغفل عنهما؛ (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15].
وقد قيل: الأبوان يحملان عشرةً من الولد، لا يكلان ولا يضجران، وعشرةُ من الولد لا يحملون أماً أو أبا؛ ولذا تجد كثيرا من الأولاد والبنات يتقاسمون الخدمة والرعاية، ويتناوبون الصلة والزيارة.
ومن كما البر الإقبال عليهما بكامل الأحاسيس والاهتمام، وعدم الانشغال والتلهي عنهما بهاتف أو وسائل تواصل بحضرتهما؛ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربكم لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: الأبوانِ عينانِ في رأس الأبناء والبنات، الوالدان العظيمان هما أولى من في هذه الحياة في التوقير والإحسانِ، والوفاء والإكرام، وتحري رضاهما وتلمس حاجاتهما وإن اختلفا فيما بينهما، فإنه لا يحق ولا يحل هجر الوالد أو عِدائه عند زواجه بامرأةٍ أخرى، فقد شابت لحيته في تربيتك وتغذيتك، ورقَّ عظمه نصباً في الحياة من أجلك.
فلمَّا بلغتَ السِّنَّ والغايةَ الَّتي *** إليْها مَدَى ما كان فِيكَ يُؤمِّلُ
جَعَلْتَ جزائه مِنْكَ غِلْظةً وفَضَاضةً *** كأنكَ أنْتَ المُنعِمُ المُتفَضِّلُ
كما أنه لا مبرر لجفاء الأم أو ضعف زيارتها وخدمتها عند فراقها وتزوجها بآخر، فقد وهن جسمها من حملك وخدمتك، وضعفت قواها في رعايتك وسهرها عليك.
وحسبُها الحملُ والإِرضاع تُدمِنه *** أمران بالفضلِ نالا كلَّ إِنسانِ
وإن بغى أحدهما على الآخر فإن أعظم البر وأجل الإحسان من سعى بينهما للوفاق، وأكرمهما بلا تفضيل أو تحريض، وكان لهما أكرمَ ابنٍ وخير بنت؛ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23 - 24].
خفض الجناح، لين الجانب لهما، وعدم التعالي عليهما بصوتٍ أو رأي، ومذللا مطواعاً غير جافٍ أو عالٍ، كما قال الأعرابي وهو حاملٌ أمه يطوف بها:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ *** إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ
اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا أحياءً وأمواتا، اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم