عناصر الخطبة
1/منزلة الإخلاص من العمل 2/التحذير من الغفلة وآثارها 3/منزلة التقوى وبيان ثمراتها 4/الحث على محاسبة النفساقتباس
ويقول أحدُ العارفين: "ما ارتفعَ شيءٌ إلى السماء أعظمَ من الإخلاص، ولا نزلَ شيءٌ إلى الأرض أعظمَ من التوفيق، وبقدر الإخلاصِ يكونُ التوفيق"، فقل لمن لا يُخلِص لا تُتعِب نفسك؛ فالإخلاصُ هو الأساس، فتعاهد قلبك -يا عبد الله- ودافع الخطرات، فإن لم تفعل...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وإنَّ أفضلَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ.
معاشر المؤمنين الكرام: القلبُ هو ملِكُ الجوارح وقائدها، وزعيمها وسيدها، إذا صلُحَ القلبُ، صلُحت الجوارحُ كلها، وإذا فسدَ القلبُ، فسدت الجوارحُ كلها، وصلاحُ القلبِ إنما يكون بصدقِ النية وتمحيص الإخلاص، فالنيَّةُ والإخلاص رُوحُ العملِ وأساسهُ، ومدار قبوله أو رده، ففي الحديث الصحيح: "إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ"، وفي محكم التنزيل: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110]، وقال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حنفاء)[البينة: 5].
ولو نظرَ الإنسانُ إلى أفضلِ أعماله، لَوجَدَها تلك التي أدّاها بصدق نيةٍ وإخلاص، تأمل: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)[النساء: 125]؛ ولذا فالإخلاص لهُ عند اللهِ جزاءٌ خاصٌ، ففي الحديث القدسي الصحيح: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به"، فكلما كان الإخلاص أقوى، كان الجزاء مضاعفاً أكثر.
وفي المقابل فمن فرط في الإخلاص فهو على خطرٍ عظيم، قال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23]، وفي صحيح مسلم، قالَ اللَّهُ -تَبارَكَ وتعالى-: "أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ"، ويقول أحدُ العارفين: "ما ارتفعَ شيءٌ إلى السماء أعظمَ من الإخلاص، ولا نزلَ شيءٌ إلى الأرض أعظمَ من التوفيق، وبقدر الإخلاصِ يكونُ التوفيق"، فقل لمن لا يُخلِص لا تُتعِب نفسك؛ فالإخلاصُ هو الأساس، فتعاهد قلبك -يا عبد الله- ودافع الخطرات، فإن لم تفعل صارت شهوةً، ثم عزيمة، فإن لم تدافعها صارت عملاً، فإن لم تدافعها استحالت عادةً يصعبُ تركها.
أيها الموفقون: القناعةُ كنزٌ، والحلال بركةُ، والخيرُ كلُّه في الرضا، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، واللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد أبداً، والراحمون يرحمهم الرحمن، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا ومخرجا، والمرءُ حيثُ يجعلُ نفسهُ، فإنْ رفعها ارتفعتْ، وإنْ وضعها اتَّضَعتْ، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، والعملُ بضاعةُ الأقوياء الجادين، والأماني بضاعةُ الضعفاء البطالين، وفي محكم التنزيل: (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)[البقرة: 63]، والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ؛ (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)[هود:112].
وإذا وهبَ اللهِ -تعالى- لعبده المؤمن أُذُناً تعي وتَسمَعُ، وَقَلباً يَخشَى وَيَخشَعُ، وعقلاً يرتدِعُ ويُقلِع، فقد والله وفِقه توفيقاً عظيماً، ومنحه عطاءً جزيلاً؛ (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)[النساء: 66]، ألا وإن طولُ الأملِ يُنسي الآخرةَ، واتِّباعُ الهوى يصدُّ عن الحق، وإنَّ القلوبَ المتعلقةَ بالشهوات والهوى، محجُوبةٌ عن اللهِ بقدر تعلُقِها به، والنفسُ أمارةٌ بالسوء، فإن عصتْك في الطاعة فلا تُطعِها في المعصية؛ (قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ)[الأنعام: 104]، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148].
واحذروا الغفلات؛ فالغفلةُ أشدُّ ما يفتِكُ بالقلوب، وإنما صلاحُ القلب بمحاسبة النّفس، وفسادهِ بإهمالها والاسترسالِ معها، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد)[آل عمران: 30]، نعم -يا عباد الله- سيقف كلٌّ منا أمام ربه عارياً حافياً، يُختمُ على فيهِ، وتنطق جوارحهُ.
فتهيأ -يا عبد الله- لهذا الموقف الرهيب، واجلس مع نفسك وحاسِبها، ففي الحديث الصحيح، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتى يُسأَلَ: عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ؟ وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ؟"، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ)[الحشر: 18]، إنها وصية الله العظمى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
وهي وصيةُ الله الخاصةِ لكم -أيها المؤمنين-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119]، وفي الحديث المشهور: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
ولقد أكدَّ اللهَ -جلَّ وعلا- محبتهُ للمتقين، في ثلاثة مواضع من كتابه، فقال -تعالى- فيها: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 4]، بل وجعل معيته الخاصة للمتقين، فقال -سبحانه-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 194]، كما جعل القبولَ محصوراً في المتقين، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].
والمتقون عند الله هم الأكرمون؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]، وهم الأكثرُ حظاً من هِداياتِ القرآنِ الكريمِ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 2]، والعلمُ النافعُ هِبةُ اللهِ للمتقين: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)[البقرة: 282]، والأمنُ والحِمَايَةُ للمتقين، قَالَ -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[آل عمران: 120]، والرحمةُ المضاعفةُ والنَّورُ التامُّ للمتقين؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحديد: 28]، والبركةُ والفتحُ أيضاً لهم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96].
والأمنُ والأمانُ والثوابُ الخاصُ للمتقين؛ (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 103]، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأعراف: 35]، كما أن التوفيق والتيسيرِ، والرزقِ الوفير، والأجر الكبير للمتقين؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5]، والمتقونَ بفضل الله هم الناجونَ: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 61]، كما أنَّ ممَّا وعدوا به أن (الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[هود: 49]، و(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)[النبأ:31]، (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)[الزخرف:35]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 54 - 55].
جعلني الله وإياكم من المتقين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل)[يونس: 108].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً كثيراً، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيراً ونذيراً,
أما بعد: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة:100]، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وأحسِنوا إنَّ اللهَ يحبُّ المحسنين؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[الأنفال:21].
معاشر المؤمنين الكرام: أعزُّ ما على المؤمن سلامةُ دينِه، وثباتهُ على الإيمان والتقوى؛ (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور)[لقمان: 22]، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الزخرف: 43]، ألا فاحذروا يا عباد الله الفتن، فما من شيءٍ أخطرُ على دين المرءِ من الفتن، في الحديث الصحيح: "إنَّ السعيدَ لمن جُنّب الفتن"، قالها ثلاثاً، وفي محكم التنزيل: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55].
ثم اعلموا أن صَنائِعُ المَعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، وَأن اللَّهُ -تعالى- في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وأن من تعرَّفَ إلى اللهِ في الرخاءِ، يعرفُه في الشدَّةِ؛ (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم)[فصلت: 34]، (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين)[القصص: 77]، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى: 40]، (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء: 124]، (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) [النساء: 85]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين)[آل عمران:85].
وَمَنْ أيقنَ أَنَّ حَصَادَ لِسانهِ، وحصيلةَ كلامهِ، هو أَعظَمُ ما يُوضعُ يومَ القيامةِ في مِيزانَه، فسيكونُ للسانِه حَافِظاً، وَلَهُ مراعياً ومراقباً؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين)[فصلت: 33]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10]، وفي الحديث الصحيح: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)[الإسراء: 53]، فطوبي لكل لسانٍ طيب.
وإذا علمتَ -يا عبد الله- أنك محاسَبٌ على أوقاتِك، مُحصىً عليكَ كلُّ أقوالِك وأفعالِك، فاحرص على ما ينفعُك، واترك ما لا يَعنيك، ودعْ ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك، واستعن بالله ولا تعجز، وقل أمنت بالله ثم استقم، واعلم أنَّك لن تنالَ ما تُحبَّ إلا بترك ما تشتهي، ولن تُدرك ما تؤمِّل إلا بالصبر على ما تكره، ولن تنالَ ما عند اللهِ إلا بطاعته -جلَّ في علاه-، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
وتذكر -أيها المبارك- أنك لن تأخذَ معك سوى عملُك، ولن يبقى مِنك إلا سمعتُك وذكرُك، فاجتهد في إصلاح عملِك، وتحسينِ خُلقِك، واشتغل بذِكْر الله؛ فإنَّهُ خيرُ الأعمال، وأحبها إلى الكبير المتعال، والْزَم الصِّدْقَ فإنّ الله مع الصادقين، واحذر الكَذِبَ فإن المؤمنَ لا يكذب، وصِل رحمك، وأحسِن إلى جيرانك، تكُن مِن المحسنين؛ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور)[لقمان: 17].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
ويا ابن آدم: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم