التخبيب - خطب مختارة

إنها مسابقة إبليسية، يعقدها سيد الشياطين، ويشترك فيها كل متمرد منبوذ أسود القلب من الشياطين -وكلهم كذلك-، وجائزتها الكبرى هي القرب والتكريم من الملعون الأكبر؛ إبليس الرجيم، وجلوس الفائز بجانبه على عرشه، ومعانقته إياه، وأما موضوع المسابقة فهو: التفريق بين زوجين متآلفين اجتمعا ببركة رب العالمين، والتحريش بينهما، وهدم أسرة ملتئمة... فمن حقق منهم الهدف نال الجائزة! وفيما يلي تفاصيل المسابقة المشئومة:

يرويها جابر -رضي الله عنه- فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت" قال الأعمش: أراه قال: "فيلتزمه"(رواه مسلم)، أي: يضمه إلى نفسه ويعانقه.

ولا يحسبن أحد أن هذه المسابقة قد قُصرت المشاركة فيها على من كان من جنس الأبالسة والشياطين! كلا؛ بل هي متاحة لمشاركة كل خبيث وخبيثة أيًا كان جنسه! وأولئك الذين تبرأ منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ومعنى: "خبب امرأة على زوجها": أي خدعها وغرر بها وأفسدها على زوجها وحرضها على مفارقته، تمامًا كما صنعت تلك المرأة التي حكى لنا عثمان بن عطاء قصتها قائلًا: كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله سلم، وإذا بلغ وسط الدار كبر، وكبرت امرأته، فإذا بلغ البيت كبر وكبرت امرأته، قال: فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام فيأكل، فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه، ثم أتى البيت فكبر وسلم وكبر فلم تجبه وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود في الأرض تنكت به، فقال لها: ما لك؟ قالت: الناس بخير وأنت أبو مسلم لو أنك أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئًا نعيش به! فقال: اللهم من أفسد علي أهلي فأعم بصره، قال: وكانت أتتها امرأة فقالت: أنت امرأة أبي مسلم فلو كلمت زوجك يكلم معاوية ليخدمكم ويعطيكم، قال: فبينا هذه المرأة في منزلها والسراج يزهر إذ أنكرت بصرها فقالت: سراجكم طفئ؟ قالوا: لا، قالت: إنا لله، ذهب بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده الله، وتطلب إليه، قال: فدعا الله فرد عليها بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها التي كانت عليها(كرامات الأولياء، للالكائي).

وقد عدَّ العلماءُ التخبيب بين الزوجين من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، يقول ابن القيم: "وهذا من أكبر الكبائر؛ فإنه إذا كان الشارع نهى أن يخطب على خطبة أخيه فكيف بمن يفسد امرأته أو أمته أو عبده ويسعى في التفريق بينه وبينها حتى يتصل بها؟! وفي ذلك من الإثم ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يزد عليها، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة؛ فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه؟!"(فيض القدير، للمناوي).

وكفى من يخبب بين زوجين أنه معاون ومساعد للشياطين، بل أيضًا يصنع صنيع الكهان والسحرة والعرافين، يقول الله -عز وجل-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)[البقرة: 102].

***

ولو طالعنا بقية الحديث السابق الذي جاء بالتبرؤ من المخببين لاكتشفنا أنه لا ينطبق فقط على من خبب بين زوجين، بل يسري حكمه أيضًا على كل من أفسد العلاقة بين اثنين كانا متفاهمين أو متجانسين أو متآلفين، فتتمة الحديث تقول: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها، أو عبدًا على سيده"، وعند النسائي: "من خبب عبدًا على أهله فليس منا، ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا"؛ فقدَّم تخبيب العبد.

وقل مثل هذا فيمن أفسد ولدًا على والده، أو أفسد بين شريك وشريكه، أو سعى بالفتنة والإيقاع بين جارين أو بين عائلتين من المسلمين... فأولئك جميعًا من شرار الخلق عند الله -عز وجل-؛ كما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بشراركم؟" قالوا: بلى قال: "فشراركم: المفسدون بين الأحبة، المشاؤون بالنميمة، الباغون البرآء العنت"(رواه أحمد، وحسنه الألباني).

***

والحق أنه يجب على كل من تدخل بين اثنين -خاصة إن كانا زوجين- أن يكون تدخله بنية الإصلاح، ولا شيء إلا الإصلاح، فقد وعد القرآن الكريم قائلًا: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)[النساء: 35]، فلا يتجنى ولا يحرض ولا ينحاز لأحد الطرفين ولو كان أقرب إليه وأولى به، وهو ما كان يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

فعن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة فلم يجد عليًا في البيت، فقال: "أين ابن عمك؟"، قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرج، فلم يقل عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو؟" فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه عنه، ويقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب"(متفق عليه).

وفي لفظ مسلم قال سهل: "ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها".

وللتخبيب في زماننا ألف صورة وصورة غير ما ذكرنا، كتخبيب "دعاة تحرير المرأة" ممن يشجعونها على التمرد على قوامة الرجل، وأنها مثله سواء بسواء!.. وكمن يحرضون الأولاد على عصيان آبائهم بحجة أن الآباء رجعيون لا يواكبون العصر!.. وكمن يشيعون أن العلماء والفضلاء لا يراعون ظروف الخلق ولا يرحمونهم فيشددون عليهم!...

ولأننا لن نستطيع حصر جميع ذلك في هذه العجالة، فقد تركنا الأمر لخطبائنا يفصِّلون الأمر ويبينونه ويؤصلونه، فإليكم بعضًا من خطبهم: