اقتباس
والمسلم الحق يحس بآلام إخوانه ويشعر بمعاناتهم فيسعى جاهدًا للتخفيف عنهم ومساعدتهم؛ فإن كان غنيًا واسى الفقراء من ماله، وإن كان مالكًا لعقار رفق بالمستأجرين ولم يرهقهم بزيادة الإيجار عليهم، وإن كان صاحب عمل وفَى أجرائهم حقوقهم ولم يبخسهم أجورهم أو يكلفهم فوق طاقتهم...
مجبولة هي النفس على حب المال واكتنازه: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]، حتى لو أن لها من الذهب آلاف الأطنان لأحبت لو ازدادت منه: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"(متفق عليه).
وكم أهلك الطمع والجشع وحب المال من البشر! فهذا قارون: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)[القصص: 76]، فما زال به بطره وأشره وجشعه حتى قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، فكانت العاقبة المحتومة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81].
ويروي الطبري في تفسيره وغيره أن عيسى -عليه السلام- وصاحبه اليهودي "مرا على كنز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإن له أهلًا يهلكون عليه، فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى، ومر بالمال أربعة نفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال: اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودواب نحمل عليها هذا المال، فانطلق الرجلان فابتاعا دواب وطعامًا وشرابًا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سمًا، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم! ففعلا، وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعام والدواب بيني وبينك، فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا".
ولا يزال الجشع والطمع والحرص والشح بصاحبه إلى أن يرديه المهالك ويوقعه في عظائم الذنوب -والعياذ بالله-؛ لذا فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "... واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"(رواه مسلم).
***
هذه هي النفس لو تُرك لها عنان هواها، وهذا هو الإنسان قبل أن يهذبه الإسلام؛ يتبع جبلته وهواه؛ هكذا يصنع بالناس الجشع والحرص والطمع، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
أما الإنسان المسلم الذي رباه دينه فإنه يكبح جماح الهوى، ويخالف النفس، ويتسامى فوق ما تمليه عليه جبلته، ويعلم أن المال وسيلة للعيش وطريق لدخول الجنة بالتصدق على الضعفاء والمحتاجين وأنه ليس غاية في ذاته.
والمسلم الحق هو خير من يطبق قول الله -عز وجل-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9] فيبرأ من كل حرص وطمع وجشع، ولهذه الآية سبب نزول عجيب يرويه لنا البخاري ومسلم عن أبي هريرة: "أن رجلًا من الأنصار بات به ضيف، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية، وأطفئ السراج، وقربي للضيف ما عندك"، قال: فنزلت هذه الآية... وفي لفظ للبخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما".
***
والمسلم الحق يحس بآلام إخوانه ويشعر بمعاناتهم فيسعى جاهدًا للتخفيف عنهم ومساعدتهم؛ فإن كان غنيًا واسى الفقراء من ماله، وإن كان مالكًا لعقار رفق بالمستأجرين ولم يرهقهم بزيادة الإيجار عليهم، وإن كان صاحب عمل وفَى أجرائهم حقوقهم ولم يبخسهم أجورهم أو يكلفهم فوق طاقتهم... وكيف لا يكون المسلم الغني كذلك وهو يحفظ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله -عز وجل-"(متفق عليه).
وإنك لترى المؤمن دائمًا قنوعًا بما آتاه الله شاكرًا لأنعمه، غير جشع ولا طماع، ليكون حرًا من إسار ماله وهواه وأطماعه، وصدق القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أني قنعت لكنت حرًا
وقد لخص الآخر الأمر فقال:
العبد حرٌ ما قنع *** والحر عبدٌ ما طمع
***
وهؤلاء المالكون للعقارات والمساكن والدور والمحلات قد ولاهم الله -تعالى- شيئًا من أمر إخوانهم، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به"(رواه مسلم)، وفي الحديث الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه"( رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
بل على العكس تمامًا؛ إن المسلم الحق يسعى جاهدًا في قضاء مصالح إخوانه والتخفيف من معاناتهم وتنفيس كرباتهم مبتغيًا من ربه -عز وجل- أن يعامله بالمثل يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(رواه مسلم)...
بل ويرحم العباد في الدنيا راجيًا أن يرحمه رب العباد -سبحانه وتعالى- في الآخرة؛ فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وإن من علامات المؤمن الذي تصيبه رحمة الله -عز وجل- أن يكون سمحًا في تعاملاته كلها، فلا يزيد ربحه ودخله على حساب معاناة غيره، مصداق ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"(متفق عليه).
وها هنا قد جمعنا عددًا من خطب الخطباء كلهم ينادي بمثل ما ننادي به، ويحذِّر مما نحذِّر منه، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم