الحسد

د. منصور الصقعوب

2025-09-05 - 1447/03/13 2025-09-30 - 1447/04/08
عناصر الخطبة
1/تفاضل الناس في أرزاقهم 2/خطورة الحسد ومساوئه 3/عقوبة الحسد المعجلة 4/من علامات الحاسد 5/سر قبح الحسد 6/وسائل معينة على التخلص من الحسد.

اقتباس

الحاسد يعيش في غمٍّ لا ينقضي، ومصيبة لا يؤجر عليها، وشقاء لا ينتهي، فإن نعم الناس لا تنقطع، والله يوزع فضله كيف يشاء، فكلما رأى نعمة تجدد ألمه، وعاد عليه حسده بالهم والغم. ومن ضرر الحسد كذلك: أنه ينافي كمال الإيمان...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الذي خلق عباده أطوارًا، وقسم بينهم أرزاقًا وأقدارًا، وابتلاهم بعضًا ببعض اختبارًا، لينظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يضجر.

 

أحمده حمد مَن علم أنه لا مفرّ له من قضائه، ولا مهرب من بلائه، ولا نجاة إلا برضاه وولائه، وأستعينه استعانة مَن أيقن أنه لا حول له ولا قوة إلا به، وأستغفره استغفار من أذنب ورجا عفوه، وأدعوه دعاء من قلّ عمله وعظم أمله.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنير القلوب، وتثبّت الخطى، وتورث من الله الرضا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله.

 

عباد الله: الناس في هذه الحياة يتفاضلون ويتباينون في كل شؤونهم، في الخَلق والخُلق، وفي العلم والرزق، وفي المال والجمال، وفي غيرها من جوانب الحياة، وليس هذا عن عبث، بل هو بتقدير العزيز الحكيم، وتدبير العليم الخبير، كما قال -تعالى-: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)[النحل: 71].

 

فمن رضي بما قسم الله له، وسعى في تحصيل الخير من طرقه المشروعة، كان مُوفَّقاً مباركاً، ومن تسخّط وأشغل قلبه بنِعَم الناس، وأخذ يتمنَّى زوالها عنهم، فقد وقع في داءٍ عضال، ألا وهو الحسد.

 

والحسد -يا كرام- داء القلوب، ومعول الهلاك، وهو أول ذنب عُصي الله به في السماء حين حسد إبليس آدم، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض حين حسد ابن آدم أخاه فقتله.

 

قال الله عن إبليس: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)[الإسراء: 61]، وقال عن قابيل وهابيل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة: 30].

 

إنه داءٌ حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه نهى؛ فقال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا»(صحيح البخاري).

 

وعدّ السالِمَ منه مِن أفضل الخليقة، فحين سُئِلَ عن أفضل الناس: «كل مخموم القلب صدوق اللسان... لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد»(رواه ابن ماجه).

 

بل سمّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- داءً، وشأن الأدواء أن تُدَاوَى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»(رواه الترمذي).

 

الحسد -يا مُوفَّق- هو تمنّي زوال النعمة عن الغير، سواءٌ رافقه عمل في إزالة النعمة أم لا.

ولن يسلم صاحب نعمة من حاسد، كما قال عمر بن الخطاب: "ما كانت نعمة الله على أحد إلا وجد لها حاسدًا".

 

ولكن صاحب القلب السليم سليمٌ على إخوانه، يتمثل قول الحسن البصري: "يا ابن آدم، لا تحسد أخاك، فإن كان الذي أعطاه الله لكرامته عليه فلا تحسد من أكرمه الله، وإن كان لغير ذلك فلِمَ تحسد من مصيره إلى النار؟".

 

ومِن عقوبة الحسد المعجلة: أن صاحبه أشد الناس بلاء به، كما قال ابن سيرين: "الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ، ونار الحسد لا تُطفأ".

 

الحاسد لا يرضى أن يرى على أحدٍ نعمةً، فإن رآها تقطّع قلبه غيظاً، واشتعل صدره ألماً، فهو في شقاءٍ دائم لا ينقطع.

قال معاوية -رضي الله عنه-: "كل الناس أُرضيه إلا الحاسد، لا يرضيه إلا زوال النعمة".

 

عباد الله: وللحسد علامة إن وجدتها في نفسك فعَالِجْها، وإن وجدتها في غيرك تجاهك فاحذره، يصف لك ذلك وهب بن منبه حيث قال: "يتملق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة".

 

وقال الجاحظ: "ما لقيت حاسدًا قط إلا تبيَّنَ لك مكنونُه بتغيُّرِ لونه، وتخوُّصِ عينه، وإخفاء سلامه، والإقبالِ على غيرك، والإعراضِ عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك".

 

ومن أشد ما أثار الحسد في النفوس: التعلق بالدنيا، بحب التميز، والتنافس في الجاه، وفساد النفس وشحها بالخير.

وإلا فالله وصف الأنصار فقال: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)[الحشر: 9]، قال الحسن البصري: "أي لا يجدون في أنفسهم حسدًا".

 

أيها المؤمنون: إن مِن أقبح ما في الحسد أمران:

أولهما: أنه اعتراض على قسمة الله وعدله، فإن الله هو الذي رزق هذا، ومنع ذاك، وأعطى هذا مالاً، وذاك جمالاً، وآخر جاهاً، فالحاسد في حقيقته يقول: يا رب، لِمَ أنعمت على فلان؟! نسأل الله العافية.

 

ثانيهما: أن الحاسد يعيش في غمٍّ لا ينقضي، ومصيبة لا يؤجر عليها، وشقاء لا ينتهي، فإن نعم الناس لا تنقطع، والله يوزع فضله كيف يشاء، فكلما رأى نعمة تجدد ألمه، وعاد عليه حسده بالهم والغم.

 

ومن ضرر الحسد كذلك: أنه ينافي كمال الإيمان، وفي الحديث المروي "لا يجتمع في قلب عبدٍ الإيمان والحسد"؛ فالحسد يقدح في التوكل، ويضعف الرضا، ويقود إلى السخط.

 

وأنه سبب للبغضاء والقطيعة، وقد قيل: الحسد يُبدِّد الجماعات، ويُفرِّق الصفوف، ويقطع الأرحام

فهنيئاً لمن سلم منه، ورحم الله من نأى عنه.

 

اللهم طهِّر قلوبنا من الحسد والبغضاء.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

الموفقون يحرصون على علاج أدواء قلوبهم أشد من حرصهم على شفاء أدواء أبدانهم، والحسد داء من أخطر أمراض القلوب، ولا ينجو منه إلا من رحم الله.

 

والمؤمن يسعى في سلامة قلبه منه بأمور:

منها: أن يُوقِن أن حسده لا يضر إلا نفسه، فهو في شقاء وحرقة قلب، وضيق صدر، وربما لا يعلم من حسده عنه.

 

ثم أن يُعوِّد نفسه على الثناء على المحسود والدعاء له، فإن النفس إذا خالفت هواها انقادت، وإن شقّ عليه ذلك في البداية، فمع الوقت سيجد أن صدره ينشرح.

 

ثم يتأمل نعم الله عليه، ويقارن حاله بمن هو دونه، فإن ذلك يثمر القناعة، ويُذهِبُ التطلع إلى ما عند الناس.

 

يا مؤمن: وتذكر أن كل نعمة عند الناس إنما هي من الله، وأنه -سبحانه- يقسم الأرزاق بحكمته، فما من نعمة إلا وهي لحكمة، ثم كم أعطاك ربك وحرم غيرك! فكثير مما أنت فيه من نعم هي أمنية لغيرك، والمقسم للأرزاق هو الغني الحكيم.

 

حَاوِلْ أن تُفْشِي المحبة في قلبك، وتُكثر من السلام، وتستعيذ بالله من الحسد، وتلزم الدعاء، وقد أرشد الله نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَمِنْ شَرٍّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق: 5].

 

ولو شعر الحاسد بحلاوة سلامة القلب للناس، والطمأنينة التي يحسّها مَن سلِم قلبه، لعلم كم فاته، وسعى في نيل ذاك، والمؤمن مخموم القلب، لا غلّ فيه ولا حسد.

 

وبعد: فالموفَّق من نظر في قلبه، فعرف داءه، وشخّص علّته، ثم جدّ في علاجه.

الموفق من شغل نفسه بإصلاح عيوبه، وعمر قلبه بمحبة ربه، بدل التطلع إلى ما في أيدي الخلق.

 

فلا يكن همُّك ما عند الناس من أموال أو مناصب أو محامد، فإنها إلى زوال، وهي لا تُغني عنك من الله شيئًا، ولكن ليكن همك كيف تُرضي رب الناس، وتُحسن الوقوف بين يديه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم؛ سليم من الحسد، والنفاق، والكبر، والرياء، وسائر أمراض القلوب.

 

اللهم طهِّر قلوبنا من الحسد، واملأها بمحبتك ومحبة أوليائك، ووفّقنا لما تحب وترضى.

 

المرفقات

الحسد.doc

الحسد.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات