الحفظ والتمكين للمؤمنين الصادقين

الشيخ ياسر الدوسري

2025-06-13 - 1446/12/17 2025-06-14 - 1446/12/18
عناصر الخطبة
1/تهنئة بأداء فريضة الحج العظيمة 2/علامات قبول العمل الصالح 3/فوائد وعظات من حديث: "احفظ الله يحفظك" 4/شكر الله وحمده على تيسير حج بيته

اقتباس

إنَّ أهمَّ ما يجب حفظُه من حدود الله وحقوقه حفظ التوحيد، وتجريده من كل شوائب الشرك والتنديد؛ فالتوحيد هو أساس الدِّين وقوامُه، فلا يُرجى مع اختلاله ثواب عمل، ولا يخيب مع تحقيقه ظن ولا أمل...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل العظيم، أتمَّ نعمتَه على عباده المؤمنين، وتكفَّل للمطيعينَ بالحفظ في الدنيا والدِّين، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، العزيز الحكيم، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله والتابعين، ومن سار على نهجهم، وسلك الصراط المستقيم.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- واعلموا أنَّ مَنِ اتَّقاه وقاه، ومَنْ حَفِظَ حدودَه حَفِظَه ورعاه، قال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النَّحْلِ: 128].

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: لقد مضى موسم من أعظم مواسم العبادة، وانتهت أيام الحج والوفادة، فهنيئًا لكم ضيوفَ الرحمن بلوغُ الرحاب؛ فكنتُم ممَّنْ لبَّى النداءَ واستجابَ، تُعظِّمون الحرماتِ والشعائرَ، وتُهِلُّونَ بالتوحيد في المشاعر، وهنيئًا لكم على التمام، وما آتاكم الله من الفضل والإنعام؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58].

 

واعلموا -رحمكم الله- أن من علامات القَبول استمرار العمل في نيل المراد، وأن يكون الخير آخِذًا في ازدياد، وإن من أعظم ما عين على الثبات، والاستمرار في الطاعات، أن يحفظ العبد ربه في كل الأوقات؛ لينال حفظ الله في الحياة وبعد الممات، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كُنْتُ خلفَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: "‌يا ‌غُلامُ ‌إنِّي ‌أُعَلِّمُكَ ‌كَلِماتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفظْكَ، احْفظِ اللَّهَ تَجدْهُ تُجاهَكَ، إذا سَألْتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتعِنْ بالله، وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفعُوكَ بشيءٍ، لم يَنْفعُوكَ إلَّا بِشَيْءٍ قد كَتبهُ اللهُ لكَ، ولو اجتمعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ لم يضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كَتبهُ اللهُ عليكَ، رُفِعتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ"(رواه الترمذي)؛ فهذا الحديث الشريف عظيم الهدايات، وواسع الدلالات.

 

استهلَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "‌يا ‌غُلامُ ‌إنِّي ‌أُعَلِّمُكَ ‌كَلِماتٍ"؛ أي: كلمات ينفعك الله بها في معاشك وفي معادك، وفي ذلك براعة استهلال تستدعي من السامع حسن الإنصات لما يتلى إليه، وإلقاء سمعه لما يلقى عليه.

 

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "احْفظِ الله يَحْفظْكَ"؛ أي: احفظ حقوقه وحدوده بعزم، والزم أوامره واجتنب نواهيه بحزم، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الرحمن، والفائزين بوعده ودخول الجنان، قال -تعالى-: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)[ق: 32-34].

 

عبادَ اللهِ: إنَّ أهمَّ ما يجب حفظُه من حدود الله وحقوقه حفظ التوحيد، وتجريده من كل شوائب الشرك والتنديد؛ فالتوحيد هو أساس الدين وقوامه، فلا يُرجى مع اختلاله ثواب عمل، ولا يخيب مع تحقيقه ظن ولا أمل، قال الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزُّمَرِ: 65-66].

 

ومن أهم ما يجب على العبد حفظه بعد حفظ التوحيد المحافَظة على الصلاة؛ فهي عمود الإسلام، وأول ما يحاسب عليه الإنسان، وهي سر النجاح، ومفتاح الفلاح، قال -تعالى-: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)[الْبَقَرَةِ: 238].

 

ثم عليكم -عبادَ اللهِ- بالمحافَظة على سائر أركان الإسلام؛ من زكاة وحج وصيام، فارعوها حقَّ رعايتها، وقُومُوا بحقِّها خيرَ قيامٍ.

 

إخوةَ الإيمانِ: وأمَّا قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "يَحْفَظْكَ" فمعناه: أن الله يحفظ العبد في دينه ودنياه؛ فإن الجزاء من جنس العمل، قال -عز وجل-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 40]، وحفظُ اللهِ للعبدِ نوعانِ: النوع الأول وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه واتباعه لسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-؛ فيحفظه في حياته من الشُّبُهات المضلة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويَحُول بينَه وبينَ ما يُفسِد عليه دِينَه، ويحفظه عند موته، فيتوفاه على الإيمان والسنة.

 

النوع الثاني: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في نفسه وولده، وأهله وماله، فلا يخلص إليه قذى، ولا يناله فيها أذى، قال الله -جل وعلا-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[الرَّعْدِ: 11]، قال محمد بن المنكدر: "‌إن ‌الله ‌ليحفظ ‌بالرجل ‌الصالح ‌ولده وولد ولده والدويرات التي حول مَسْرَبته، فلا يزالون في حفظٍ من الله وستره".

 

وعلى قَدْر حفظ العبد لربه يكون حفظ الله له، قال -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله تجده تجاهك"، فمن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، يحوطه وينصره، ويوفقه ويسدده، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النَّحْلِ: 128].

 

أيها الناسُ: وأما قوله: "إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله"، وهذا كقوله -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الْفَاتِحَةِ: 5]، فإن سؤال الله هو دعاؤه والرغبة إليه، فالواجب أن يسأل الله وحده، ويستعان به دونما سواه، فلا يقدر على جلب المصالح ودفع المضار إلا الله -جل في علاه-.

 

عبادَ اللهِ: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

أمَّا بعدُ، أيها المسلمون: وفي ختام هذا الحديث العظيم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفعُوكَ بشيءٍ، لم يَنْفعُوكَ إلَّا بِشَيْءٍ قد كَتبهُ اللهُ لكَ، ولو اجتمعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ لم يضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كَتبهُ اللهُ عليكَ، رُفِعتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ"، والمراد: أن ما يصيب العبد مما ينفعه أو يضره فكله مقدر عليه، قال -تعالى-: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التَّوْبَةِ: 51]؛ فالمقادير كلها قد فرغ منها، وكتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(رواه مسلم).

 

واعلموا -رحمكم الله- أن من تعرف إلى الله في حال رخائه كان الله معه وحفظه في كل أحواله، ودفع الضر عنه عند حوادث الدهر إذا ادلهمت وخطوب الزمان إذا ألمت.

 

حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: تقبل الله حجَّكم وسعيكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه المواسم المباركة أعوامًا عديدةً، وأزمنةً مديدةً، وإن مما يثلج الصدر، ويدعو للفخر، ويستوجب الشكر، ما تقوم به القيادة الرشيدة، في هذه الدولة المباركة من جهودٍ عظيمةٍ معهودة، وأعمال جليلة مشهودة، والتي أثمرت بتوفيق الله نجاحًا عظيمًا لموسم الحج في هذا العام، وفي كل عام، فجزى الله ولاة أمرنا خير الجزاء، وجعل سعيهم مشكورًا، وكتبهم لهم الأجر موفورًا.

 

عبادَ اللهِ: هذا وصلُّوا وسلِّموا على إمام المتقين، وقدوة الموحدين، كما أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارك على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدينَ، وعن الصحابة أجمعينَ، والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنَّا معَهم بعفوكَ وجودكَ وإحسانكَ، يا أكرمَ الأكرمينَ.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم، واجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، اللهمَّ اجعل سفرهم سعيدًا، وعودهم إلى بلادهم حميدا، واجعل دربهم درب السلامة والأمان.

 

اللهمَّ وفق إمامنا وولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، لكل ما تحب وترضى، وأجزل لهم الأجر والمثوبة على كل ما يبذلونه للحرمين الشريفين وقاصديهما، من الحجاج والمعتمرين والزائرين، واجز جميع أعوانهم والعاملين في خدمة ضيوف الرحمن خير الجزاء.

 

اللهمَّ انصر رجال أمننا، وجنودنا على ثغورنا، واحفظهم بحفظك، وتولهم بعنايتك، واكلأهم بعنايتك.

 

اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين.

 

اللهمَّ انصر المستضعَفين من المسلمين في فلسطين، اللهمَّ انصر إخواننا المستضعَفين من المسلمين في فلسطين، وفي كل مكان، اللهمَّ اجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، اللهمَّ اشف جرحاهم، واحقن دماءهم، واربط على قلوبهم.

 

اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

 

(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]،

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات

الحفظ والتمكين للمؤمنين الصادقين.doc

الحفظ والتمكين للمؤمنين الصادقين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات