اقتباس
ولقد قسى الناس على الحمقى والطائشين أيما قسوة، وادعوا أن داءهم لا دواء له، وهم في ذلك معذورون لما يرونه مما لا تطيقه نفس ولا يجيزه عقل، فهذا أبو إسحاق السبيعي يقول: "إذا بلغك أن غنيًا افتقر فصدق، وإذ بلغك أن...
العقل زينة الإنسان ورونقه وبهاؤه، ومن كان دميم الشكل غليظ الملامح قليل المال قبِلْناه ما دام صحيح العقل، وعلى العكس فإن من اجتمعت فيه وسامة الدنيا وفتوة العضلات وخشونة الصوت استضعفناه واستحقرناه إذا كان كليل العقل أحمق التصرف سفيه الرأي طائشًا متهورًا! ولو اجتمع لامرأة جمال العالم كله وفتنته لشانها إن لم يكن لها عقل، ولضيع حمقُها فتنتها، ولأخمد طيشُها بهاءها! فلا قيمة لشيء يمتلكه الإنسان إن لم يصاحبه عقل؛ فإن الأحمق السفيه الطائش إن كان له مال بدده سفهه، وإن كان له منصب أخمده، وإن كان له جاه أفسده...! وهؤلاء هم سر البلاء وأس الشقاء وسبب العناء وأصل كل لأواء! ولعلهم من قصدهم ابن القيم حين يقول: "أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحمى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب"(إعلام الموقعين، لابن القيم).
ولقد قسى الناس على الحمقى والطائشين أيما قسوة، وادعوا أن داءهم لا دواء له، وهم في ذلك معذورون لما يرونه مما لا تطيقه نفس ولا يجيزه عقل:
فهذا أبو إسحاق السبيعي يقول: "إذا بلغك أن غنيًا افتقر فصدق، وإذ بلغك أن فقيرًا استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حيًا مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلًا فلا تصدق"(أخبار الحمقى والمغفلين، لابن الجوزي).
وقال بعض العلماء: ""الحمق غريزة لا تنفع فيه حيلة، وهو داء دواؤه الموت"، كما قيل:
لكل داء دواء يستطب به *** إلا الحماقة أعيت من يداويها+
ولبعضهم:
لكل داء دواء يستطب به *** إلا الحماقة والطاعون والهرم
ويروى أن سيدنا عيسى -عليه السلام- قال: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني!"(غذاء الألباب، للسفاريني).
بل ولقد كانوا يجعلون مخالطة الحمقى والسفهاء عقابًا ونكالًا لمن يكرهون؛ يقول الماوردي: "وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل"(أدب الدنيا والدين، للماوردي).
واعتبروا الأحمق الطائش خطرًا على من يعاشره، بل خطرًا حتى على نفسه، يقول الأحنف بن قيس: "من كل شيء يحفظ الأحمق إلا من نفسه"(المصدر السابق)، وفي هذا يقول صالح بن عبد القدوس:
ولأن يعادي عاقلًا خير له *** من أن يكون له صديق أحمق
فارغب بنفسك أن تصادق أحمقًا *** إن الصديق على الصديق مصدق(الآداب الشرعية، لابن مفلح).
***
ولو عقدنا مقارنة بين السفيه الأحمق وبين العاقل المسدد لما وجدنا أفضل مما قاله الماوردي أيضًا: "العاقل إذا والى بذل في المودة نصره، وإذا عادى رفع عن الظلم قدره، فيسعد مواليه بعقله، ويعتصم معاديه بعدله، إن أحسن إلى أحد ترك المطالبة بالشكر، وإن أساء إليه مسيء سبب له أسباب العذر، أو منحه الصفح والعفو.
والأحمق ضال مضل إن أونس تكبر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلف، وإن ترك تكلف. مجالسته مهنة، ومعاتبته محنة، ومحاورته تعر، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شقا... والأحمق يسيء إلى غيره ويظن أنه قد أحسن إليه فيطالبه بالشكر، ويحسن إليه فيظن أنه قد أساء فيطالبه بالوتر، فمساوئ الأحمق لا تنقضي وعيوبه لا تتناهى ولا يقف النظر منها إلى غاية إلا لوحت ما وراءها مما هو أدنى منها، وأردى، وأمر، وأدهى"(أدب الدنيا والدين، للماوردي).
وقال الخليل بن أحمد: "الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فخذوا عنه، ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري، فذاك ناسٍ فذكروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري، فذاك طالب فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه"(أخبار الحمقى والمغفلين، لابن الجوزي).
وخلاصة القول: أن "العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، حتى قال أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - فيمن أوصى بثلث ماله لأعقل الناس أنه يكون مصروفًا في الزهاد؛ لأنهم انقادوا للعقل ولم يغتروا بالأمل"(أدب الدنيا والدين، للماوردي).
وقد قال الصديق -رضي الله عنه-: "أكيس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور"(الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهانى).
ولقد قيل: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".
***
لكن هل السفيه الأحمق من المجانين فنعذره؟ وإن لم يكن منهم فما هو الفرق بين الحمق والجنون؟!
يجيب ابن الجوزي قائلًا: "معنى الحمق والتغفيل هو: الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون؛ فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعًا، فالأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد ورويته في الطريق الوصال إلى الغرض غير صحيحة، والمجنون أصل إشارته فاسد، فهو يَختار ما لا يُختار"(أخبار الحمقى والمغفلين، لابن الجوزي).
وقال أبو حاتم بن حيان الحافظ: "علامة الحمق سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه أغتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن جهلت عليه حلم عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإذا ظلمته أنصفت منه، ويظلمك إذا أنصفته"(المصدر السابق).
***
وإننا لنخالف ادعاء من ادعى أن الحماقة والطيش والسفه أدواء لا علاج لها؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "لكل داء دواء"(رواه مسلم)... ولقد قدَّم الخادمي علاج ذلك قائلًا: "وعلاجه السعي والجد والمواظبة في التعلم، قال أبو حنيفة -رحمه الله- لأبي يوسف: "كنت أنت بليدًا (أحمق) أخرجتك مواظبتك من البلادة"، حتى صار إمامًا ثانيًا مع كونه على البلادة؛ بناء على الجد والسعي، والإمام محمد مع شدة ذكائه صار إمامًا ثالثًا لعدم سعيه مثل سعي أبي يوسف اعتمادا على ذكائه.
فانظر إلى المواظبة كيف أخرجت صاحبها من البلادة وأوصلته إلى مرتبة الاجتهاد التي لم ينلها إلا الأفراد، وقد قالوا: "إذا تعارض قولهما يرجح قول أبي يوسف""(بريقة محمودية، لمحمد الخادمى).
***
وأما نصيحة الإمام الشافعي لك: فلا تصاحب أحمقًا، ولا تطاوع طائشًا، ولا تجاوب سفيهًا إذا نطق:
يخاطبني السّفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبًا
يزيد سفاهة فأزيد حلمًا *** كعود زاده الإحراق طيبًا
وهو نفس ما ينصح به خطباؤنا في خطبهم التي نقلنا إليك عددًا منها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم