الصلاة هناء لا عناء

د. منصور الصقعوب

2025-08-15 - 1447/02/21 2025-09-08 - 1447/03/16
عناصر الخطبة
1/تعظيم قدر الصلاة 2/من فوائد إقامة الصلاة وثمراتها 3/صور رائعة ونماذج مشرقة في الحرص على الصلاة 4/خطورة التفريط في الصلاة وإضاعتها.

اقتباس

يعتصر القلب ألماً وهو يرى أناساً جاوروا المساجد فكانوا بئس الجيران، لا يأتون المساجد إلا في المناسبات، إن صلوا ففي بيوتهم، يتعللون بكل عذرٍ، فإذا دعا داعي الوظيفة والمدرسة خرجوا يهرعون، فيا خيبة مَن ضلَّ طريق المسجد! وتحزنُ يوم أن تأتي كثيراً من مساجدنا في صلاة الفجر فتفتقد حينها رجالاً...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

أما بعد: إلى كل مهموم مغموم، إلى كل مكلوم مفجوع، إلى كل من يريد سعادة الدنيا وفوز الآخرة، إلى من يريد أن يرافق سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- في أعالي الجنة، إلى كل هؤلاء، أين أنتم من سلوة العارفين وأنس الطائعين، أين أنتم من أعظم القربات وروعة المناجاة، أين أنتم من الصلاة؟!

 

نعم إنها الصلاة فلا راحة لمن ضيعها.

إنها الإيمان فلا إيمان لمن تركها، إنها الحياة فلا سعادة بدونها، بل إنها الدين فلا دين لمن أضاعها.

 

يأتي ذلك الشاب –وهو ربيعة بن كعب- إلى رسول الله ومعه وَضوءه؛ فقال له المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "سلني يا ربيعة؟"، فقال الفتى -بِهِمَّةِ الرجال-: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أو غير ذلك"، فقال: هو ذاك يا رسول الله.

 

وعند أحمد في المسند أن رسول الله قَالَ له: "مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟" فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَرَأَيْتُ أَنَّ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ لِآخِرَتِي. قَالَ "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".

 

ويوم أن يضيق الصدر ويحزب الأمر فإلى الصلاة بعد الله الملجأ والمفر، وكيف لا وبها تأنس القلوب، وصلى الله على من قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، ومن "كان إذا حزبه أمر قال: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها".

 

يشتد عليه أمر الدعوة، ويُحزنه مَن أعرض وعصى وتجبر وطغى، فينزل عليه ربه مسلياً وموصياً: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الحجر: 97- 98].

 

الصلاة بها نعالج مشاكلنا ونُرضي ربنا، فإذا تأخَّر المطر فزعنا إلى الصلاة، وإذا كسفت الشمس هرعنا إلى الصلاة، وإذا أردنا الاستخارة توجّهنا إلى الصلاة، وإذا مات الميت ودّعناه وشفعنا له بالصلاة، وإذا لقينا نبينا -عليه الصلاة والسلام- في القيامة عرفنا بآثار الصلاة.

 

يا عباد الله: والأمرُ يعظم قدراً ويعلو أجراً إذا كان فيما افترضه الله من خمس الصلوات، تلك الشعيرةُ التي هي عمود الدين، وبها ينجو العبد من نار الجحيم، ولكي تعلم قدرها فاذكر كيف شُرِعَت وأين فُرِضت، لقد شُرِعت في السماء السابعة، ومن رب العزة مباشرة، وفرضت خمسين حتى خففت، وقال -سبحانه- في الحديث القدسي: "هي خمس وهي خمسون"؛ أي: خمسٌ في الأداء، وخمسون في الفضيلة والثواب.

 

ما ظنّك يا مُوفَّق بنهرٍ تغتسل منه كل يومٍ خمسَ مرات؟! فهل سيبقى من آثار الذنوب شيء؟ والنهر هو الصلاة.

 

ما ظنّك بعملٍ هو مهرُ الجنة لمن قام به؟ ومن حافظ عليه فله العهد من الله أن ينال الجنات؟ وذلكم العمل هو الصلاة.

 

 ويوم أن يوقف العبد للحساب والجزاء يوم المعاد، فأول ما يطرقُ سَمْعَهُ من أعماله عن حالِه مع صلواته أَحَفِظَ أم ضيع، ويوم أن ترى من يقعون في المحرمات ويوبِقون أنفسهم في الخطيئات، فاذكر أن مَن أقام الصلاة حقاً فإنها ستنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وكم من عبدٍ ردته الصلاة عن معصية، أو صرفته عن بلية، أو كرّهت له مخالفة أمر رب البرية، فحفظه الله حين حفظ أمر الله.

 

معاشر الفضلاء: ومع كثرة الصوارف إلا أن في الأمة خيراً كبيراً، فكم في المجتمع من صورٍ يبتهج الخاطر بذكرها وتُسَّرُ العينُ بمرآها، تُنبيك عن قدرِ الصلاة في النفوس.

 

فكم يسعدُ المرء وهو يرى من هجروا فرشهم ومشوا في ظلمة الليل ملبّين المنادي لصلاة الفجر، قاموا والنفوس تنازعهم والليل بِقِصَرِه ما كفاهم، لكنه اللقاء، لقاء رب الأرض والسماء، فمحرومٌ من يتأخر عن لقاء الملك، بمشهد الملائكة، وليَبشر هؤلاء بموعود رسولهم -عليه السلام-: "بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".

 

ترى من بين تلك الجموع أطفالٌ صغرت أعمارهم وكبرت هممهم، أتوا والنومُ ينازعهم لكنّ رحمةَ آبائهم بهم إذ أوقظوهم هي التي دعتهم للحضور، وهذه الرحمة الحقة.

 

تكون في طريق سفر، فترى في جنبتي الطرق أناساً من المسافرين حانت عليهم الصلاة فما تأخروا عن أدائها حتى وهم على سفر، هذا وقف مع صاحبه، وهذا معه زوجته وصِبيته، في مشهد لا تملك معه إلا أن تدعوا لهم أن يتقبل منهم؛ فما أروعها من صورة تنبيك عن قدر الصلاة في النفوس!

 

وإن ألجأك الوقت لشهود الصلاة في أحد الأسواق، فسترى صفوفاً متطاولة تكتظُّ بها المساجد من شتى الأجناس والألوان، قد أُغلِقت محالّهم وأقبلوا جميعاً لبيت ربهم يركعون ويسجدون، وبالتأمين يجأرون، أوليست هذه صورةٌ تنبيك عن قدر الصلاة في النفوس؟

 

وكم نرى في مساجدنا من أناسٍ يأتون وهم يغالبون المرض، تَخُطُّ أرجُلهم وقد عُذِروا، ويقول الواحد منهم: "لا تهنأ لي صلاة في البيت وأنا أسمع النداء"، ورأينا مَن يُحمَل للمسجد حملاً، ولسان حال الواحد منهم: "إذا حانت الصلاة ولم تجدوني في المسجد فاطلبوني في المقبرة"، فلله درهم ما أحرصهم على الخير!

 

ومع كل هذه الصور الرائعة والنماذج المشرقة إلا أن المؤمل أكثر من هذا، فعبر بوابة المساجد والصلاة تسعد النفوس وتعتز الأمة ويرضى الإله، ويذوق المرء فلاح الدارين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29- 30].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

أما بعد: عباد الله: وفي مقابل تلك الصور الرائعة لمن عُنوا بالصلاة، نماذجُ أخرى سيئةٌ، وصورٌ تحزّ في النفس، حين تقع من أناس يدينون بالتوحيد، ويعرفون أن عمود دينهم الصلاة، ثم هم يفرطون بها ولا يولونها قدرها.

 

كم يَحِزُّ في النفس أن ترى من يتفيأ صحةً وأمناً وعيشاً رغداً ثم هو لا يصلي لله ولا يسجد له، ووالذي نفسي بيده إنه لمحرومٌ كل الحرمان مَن حُرِم الصلاة والوقوفَ بين يدي الله، وماذا بقي من دينِ مَن ترك الصلاة، وسيد الخلق-صلى الله عليه وسلم- يقول: "بين الرجل والكفر ترك الصلاة".

 

ويعتصر القلب ألماً وهو يرى أناساً جاوروا المساجد فكانوا بئس الجيران، لا يأتون المساجد إلا في المناسبات، إن صلوا ففي بيوتهم، يتعللون بكل عذرٍ، فإذا دعا داعي الوظيفة والمدرسة خرجوا يهرعون، فيا خيبة من ضل طريق المسجد!

 

وتحزنُ يوم أن تأتي كثيراً من مساجدنا في صلاة الفجر فتفتقد حينها رجالاً، صحاحٌ أبدانهم، لم يمنعهم من الخروج خوفٌ ولا جوعٌ ولا عُريٌ ولا مرضٌ، يسمعون المنادي يجأر بأن الصلاةَ خير من النوم، لكنهم يتخلفون، فحرموا أنفسهم الأجر والظفر لمن صلى الفجر، و"من صلى البردين دخل الجنة"، وحرموا أنفسهم ثواب صلاة قال عنها -صلى الله عليه وسلم-: "ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا".

 

وإننا نقول لمن فقدناه في المسجد، لمن يسمع في كل وقتٍ أعداداً من المؤذنين يقول كل واحدٍ منهم حي على الصلاة. ما عذرك عند الله يوم تتخلف عن الصلاة؟

 

ضريرٌ أعمى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن رخصة له أن يصلي في بيته، فلم يرخص له، فكيف يُعذر الصحيح؟!

 

يوم القيامة إذ تُعدُّ الحسرات، لمن نالهم العذاب، وأُبِقوا في سقر، سيقولون من ضمن حسراتهم أن من سبب عذابهم (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 43]؛ فمن يقوى على ذلك؟

 

وبعد فيا مؤمنون: الصلاة تشريفٌ قبل أن تكون تكليفًا، تشريفٌ للإنسان أن يؤذن له بمناجاة خالق السماوات والأرض، وأن يقوم بين يديه ليسأله ويبث إليه شكواه.

 

ليكن في علمك أن الصلاة هناءٌ وليست بعناء، وهي راحةٌ وليس في تضييعها راحة، وهي النور في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، فيا حرمان من ضيعها، وحُرِم الوقوف بين يدي رب السماوات!

 

فكيف تنام العين وهي قريرةٌ  *** وليس تدري بأي المكانين تنزل

وكيف تتوق النفس للجهل والهوى***  وكيف تَغرّ العبدَ دنيا ترحّل

وكيف نقضي العمر باللهو والمنى *** وعما قليلٍ سوف نغدو ونرحلُ

وما المرء في دنياه إلا مسافر  *** يمتع أياماً ثم يقضي فيحمل

 

فهنيئاً لمن ارتحل من الدنيا وهو مُرْضٍ لربه، محافظٌ على صلواته، فأولئك الذين تبكي على موتهم السماوات والأرض، ويسعدون بلقاء ربهم يوم العرض.

 

اللهم اجعلنا وذرياتنا من مقيمي الصلاة، واجعلها قرة عيوننا.

المرفقات

الصلاة هناء لا عناء.doc

الصلاة هناء لا عناء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات