عناصر الخطبة
1/قصة المرأة السوداء التي كانت تنظف المسجد 2/لا تحتقر عملا صالحا مهما كان صغيرًا 3/أعمال يسيرة وأجور عظيمة 4/أهمية الكلمة الطيبة.اقتباس
فكم تمرُّ بنا في حياتنا، في يومنا وليلتنا، في عملنا وطرُقنا ومَنازِلنا من أعمالٍ صالحات، ميسورات قريبات، نَمُرُّ بها وعليها ونحن عنها غافلون! فيا مُفرِّطا في حسناته، ها هي أوجُه المعروف مشرعة أمامَك، فاقتنصها، واسعَ للآخرة سعيها....
الخُطْبَة الأُولَى:
جميل أن تكون أعمالك عظيمة، حسنٌ أن تكون همتك عالية، ولكن الأعمال عند الله قَدرُها ليس بضخامتها، وثوابُها ليس بقدر قوة ضجيجها، ومنزلتُها ليست بقدر صيتها، بل بما يقرّ في قلب صاحبها.
رُبَّ عملٍ محتقَر، وأمرٍ يسير، ومشروعٍ صغير، يبلغ عند رب العالمين مبلغاً عظيماً، في حين أن غيره لا يبلغ مداه، رُبَّ عبدٍ لا يؤبه له، وامرئٍ لا يُنظَر له، له عملٌ خفي، أو جلي، بسيط يسير، يبلغ ذلك العملُ بصاحبه أعلى المنازل.
امرأةٌ سَّوداء، تَجعَّد وجهُها، اختُلف حتى في تحديد اسمها، مسكينةٌ، لا تملك شيئًا من زخرف الدنيا ومتعها؛ قد صَغُر أمرُها عند الناس، فلم تكن محط أنظارِهم، ولم يكن اسمُها تَلُوكُه الأفواه، لكن بَقِي ذكرُها، بسبب عمل صغير في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، عَمَلُ هذه المرأة أنَّها كانت تَقُمُّ المسجد؛ تلتَقِط الخِرَقَ والقَذَى والعيدان من المسجد، ولم تكن تطلُب من أحدٍ مُقابِل عملها جزاءً ولا شُكُورًا.
صغيرٌ هذا العملُ في نظَر الأعيُن، ولكنَّه عملٌ قد أهمَّها حتى فرَّغت له وقتَها، واستَفرَغت لأجلِه طاقتها، فأصبَح أمرًا مُعتادًا أنْ ترَى الأعيُنُ هذه المرأة وهي تُلاحِق ما يندُّ من الناس، أو تلفظه الريح من أذًى داخِل المسجد، وتَرمِيه خارِجَ المسجد.
داوَمَت المرأة على عملها الصغير، حتى ودَّعت دنياها، وفارَقتْ حياتها ليلاً، ولم يكن خبرُ وفاتها نبأً ذا شأن، وإنما بادَر بعضُ الصحابة بتَجهِيزها ثم الصلاة عليها ودفنها ليلاً.
مضَتْ أيَّام، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرى رسم هذه المرأة، فسأل عنها؛ اهتِمامًا بها، وإكبارًا لشأنها، فأُخبِر بوَفاتها، فقال: "أفلا كنتُم آذَنتُموني"، فكأنَّ الناس صغَّروا أمرَها، فقال الرحمة المهداة: "دلُّوني على قَبرِها"، فدلُّوه، فمضى ومعه جمع من الصحابة حتى وقَف على قبرِها، وصلَّى عليها، ودعا لها.
هنيئًا لهذه المرأة صلاةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها، كيف لا وقد قال -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الصلاة: "إنَّ هذه القُبُور مملوءَةٌ ظلمَة على أهلِها، وإنَّ الله يُنوِّرُها بصَلاتِي عليهم".
إنها رسالةٌ إلى كلِّ مؤمن يَرجُو رحمةَ ربِّه والفوزَ برضوانه، أن لا يحتَقِر من العمل شيئًا؛ فرُبَّ عملٍ صغَّرَتْه الأعين، كان سببًا لرضا الرحمن، والفوز بالجنان.
معشر الكرام: الجنة ليسَتْ مقصورةً على من باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفاً للعُبَّاد النسَّاك، والصوَّام والقوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك ربما بأعمالٍ هي صغيرةٌ في أعيُنِ كثيرٍ من الناس.
تأمَّل يا مبارك هذه الآثار الصحيحة، وانظُر كيف وصَل أصحابها للسعادة السرمديَّة، والمتعة الأبديَّة بأعمال يسيرة.
حدَّث أبو هريرة -رضي الله عنه- عن نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "بينَما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وجَد غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّرَه، فشَكَر الله له فغفَر له"(متفق عليه).
وجاء عند أبي داود: "نزَع رجلٌ لم يعمَل خيرًا قط غصنَ شوكٍ عن الطريق؛ إمَّا كان في شجرةٍ فقطعَه فألقاه، وإمَّا كان موضوعًا فأماطه، فشكَر الله له بها، فأدخَلَه الجنَّة"؛ نعم، هو غصن شوكٍ لكنه كان سبباً في ميلاد جديد، وغفران الذنوب، ودخول الجنة، وذلكم هو التوفيق.
وحدَّث أبو هريرة أيضًا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّة قد كاد يقتُلُه العطش؛ إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها -أي: خُفّها- فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به"(متفق عليه).
وهذا رجلٌ من الأُمَم السابقة نبَّأنا خبرَه نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تلقَّت الملائكة رُوحَ رجلٍ ممَّن كان قبلَكم، فقالوا: أعمِلتَ من الخير شيئًا؟! قال: لا، قالوا: تذكَّر، قال: كنتُ أُدايِن الناسَ فآمُر فِتياني أنْ يُنظِروا المُعسِر، ويتجوَّزوا عن المُوسِر، فقال الله -عزَّ وجلَّ-: تجوَّزوا عنه"(متفق عليه).
وفي لفظٍ عند مسلم: "قال الله -تعالى-: أنا أحقُّ بذا منك، تجاوَزُوا عن عبدي".
عباد الله: وفي حياة الأنبياء خبر عجاب، من يسير الأعمال، بلغت بهم سامق المنازل.
خليل الرحمن، خلّد الله كرمه إذ أكرم ضيفانه بعجل سمين، "ومَن كان يُؤمِن بالله واليومِ الآخِر فليُكرِم ضيفَه".
وكَلِيمُ الرحمن، موسى بن عمران، بقي خبر سَقْيه لامرأتين في مدين يُتلى إلى آخر الزمان.
عيسى ابن مريم كان نفَّاعًا للناس؛ يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويشفي السقيم، ويحيي الموتى بإذن ربِّه، فجعَلَه ربُّه مباركًا أينما كان.
أما سيد ولد آدم، فحدّث عن أعمال الخير حتى قبل بعثته، فخديجة حين حلّ به، ما حلّ ذكرته بأعمال بر يصنعها، وأن ربه لن يخيبه جزاءها، تحمل الكَلَّ، وتقرِي الضيف، وتكسب المعدوم، وتعِين على نَوائِب الحق.
يا مؤمن: ليكن همُّ عملِ الخير موجوداً لدينا في كلّ زمان ومكان، فربما كان العمل الذي ستنال به مرضاة ربك لم يأتِ بعد.
لا تستصغر عبادة، فبالعمل اليَسِير بُشِّر بلالُ بن رباح بالجنَّة: "يا بلال: حدِّثني بأرجَى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإنِّي سمعتُ دَفَّ نعلَيْك بين يديَّ في الجنَّة"، فقال: ما عمِلتُ عمَلاً أرجَى عندي من أنِّي لا أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ صلَّيتُ بذلك الطهور ما كتَب الله لي أنْ أصلِّي.
لا تحتقر طاعة، فالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أنْ تَلقَى أخاك ووجهُك إليه مُنطلِق".
لا تقل فات الوقت، ففي السُّنة: "إنْ قامت الساعة وفي يد أحدِكم فسيلةٌ، فليَغرِسها"(رواه أحمد بسند صحيح).
فاملأ ديوانك، واعمل جهدك، فالكلُّ مكتوب، والجميع محسوب: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7 - 8].
والخير مهما قَلَّ فهو عند الله محبوب، وفي مُحكَم التنزيل: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[التوبة: 121]؛ إنها خطوات ونفقات، لكنّها أوجبت لهم جزاء رب السماوات، فطوبى لمن وُفِّق، ويا فوز من بادر، ويا خيبة من حرم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
لئن كان العمل اليسير قد يجلب رحمة العلي الكبير، فإن الكلمة الواحدة الطيبة ربما كانت سبباً لتغيير حياة، الكلمة الطيِّبة سهلةُ المَنال، عظيمة النَّوال، بعيدة الأثَر. فبالكلمة الطيِّبة يتَّقي العبدُ نارَ الله الموقَدة: "اتَّقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيِّبة".
وبالكلمة الطيِّبة يكتب الله لعَبدِه مَنازِل من الرِّضوان والجنان، وبالكلمة الطيِّبة فُتحَت مَغالِيق القُلُوب، وعادَ مُعرِضون تائِهُون إلى علاَّم الغُيُوب. بكلمةٍ طيِّبةٍ ومقترحٍ من ابن راهويه ألَّف البخاري صحيحه، فكان أصحَّ كتاب بعد القرآن.
محدِّث الشام البرزالي أطلَقَ كلمةً عابرة لتلميذه الذهبي، فقال له: إنَّ خطك يُشبِه خَط المحدِّثين، ففعَلتْ هذه الكلمة فِعلَها في نفْس الإمام الذهبي، فأقبَلَ على طلَب الحديث، حتى عُدَّ رأسًا من رؤوس المحدِّثين.
وبكلمة قيلت لأبي حنيفة كانت مشعل النور له للتوجّه للعلم، وبكلمة قِيلت للشافعي كانت السبب أن يُقبِل على الفقه، وهكذا.
بكلمة طيبة من التثبيت لعامل في خير أو أمر بمعروف، أو دعوة أو تعليم، تثبته بها على نفعه، كانت وقوداً له ومدداً، وثبتته على الطريق، فشاركَتْه في العمل والثواب، وبضدّها كلمةُ تثبيط، لعامل في خيرٍ، أوهنت العزائم، كان على المتكلم وِزرها إذ ثبّط بكلماته ولم يثبّت.
فرحم الله امرأ جعل من كلماته سراجاً لحياة الآخرين، ومشعلاً يضيء دروب الحائرين، فنصح ووجه، وأحسن القول وتلطف.
وبعد: فكم تمرُّ بنا في حياتنا، في يومنا وليلتنا، في عملنا وطرُقنا ومَنازِلنا من أعمالٍ صالحات، ميسورات قريبات، نَمُرُّ بها وعليها ونحن عنها غافلون! فيا مُفرِّطا في حسناته، ها هي أوجُه المعروف مشرعة أمامَك، فاقتنصها، واسعَ للآخرة سعيها.
اجعَل شعارك في صبحك ومسائك: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا"، لا تبخَل على نفسك ببَذْل ابتسامة، أو دفع هديَّة، أو رفع أذيَّة، لا تستَقلِل ثواب الشَّفاعة الحسنة، وقَضاء الحوائج، وحل المشاكل، لا تَزهَد في قُربات وطاعات؛ من مُواسَاة مكلوم، وتعزية مُصاب، وتشييع جنازَة، وعِيادَة مريض، وإنظار مُعسِر، بل وإدخال البهجة في النُّفوس، فلا تدري، فلعلَّ ذلك العمل -وإنْ كان صغيرًا- تكون به ومعه سعادَتُك ونجاتُك في أخراك، وبقاء ذكرك في دنياك.
اللهم يسِّرنا لليُسرَى، وجنِّبنا العُسرَى، واجعَلنا من أهل الذِّكرى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم