عناصر الخطبة
1/إخبار النبي لأبي بن كعب بأن الله أمره بإقرائه القرآن 2/من دلالات هذا الخبر 3/الرفعة الحقيقية وكيفية نيلها 4/من وصايا أبي ابن كعباقتباس
عندما سمع العبدُ الضعيف هذا الخبر توقّفت أنفاسه، وتلعثم بيانه، فكان الجواب دموعاً تسيل، وقلباً يخفق، وهو يتمتم بكلمات "آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟"، احتقاراً لنفسه، وهيبةً من الكبير المتعال أن ينطق الله باسمه، فيبكي حباً وإجلالاً لله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[البقرة: 235].
حدّثَ أَنَسُ بنُ مالكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ القُرْآنَ"، قَالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ"، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَبَكَى أُبَيٌّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ"(متفق عليه).
أيُّ عزٍ وفخرٍ؟! وأيُّ علوٍ ومجد؟! وأيُّ شهرةٍ ورفعة؟! أن يَذْكر اللهُ عبداً باسمهِ فوقَ عرشهِ وعند ملائكتِه، ويعلو شرفاً أن يأمرَ اللهُ خيرَ خلقهِ وأفضلَ رسلهِ -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ عليه القرآن.
سَمَا بِهِ الشَّرَفُ السَّامِي فَصَارَ بِهِ *** مُخَيِّماً فَوْقَ أَطْبَاقِ العُلَى خِيَما
عندما سمع العبدُ الضعيف هذا الخبر توقّفت أنفاسه، وتلعثم بيانه، فكان الجواب دموعاً تسيل، وقلباً يخفق، وهو يتمتم بكلمات "آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟"، احتقاراً لنفسه، وهيبةً من الكبير المتعال أن ينطق الله باسمه، فيبكي حباً وإجلالاً لله.
أيُّ شعورٍ يُقال لرجلٍ من أهل الأرض: إن ربّ العالمين ذكرك باسمك؟! أيُّ قلبٍ يحتمل أن يسمع اسمه جاء في خطابٍ من الله، يحمله جبريل الأمين، إلى الرسول الكريم مدونٌ فيه اسم أُبَيٌّ بن كعب؟! أيُّ منزلة نالها أُبَيٌّ؟! أيُّ عملٍ عمله أُبَيٌّ حتى يتكلم الله باسمه، ويخصه من بين خلقه، ويوحي إلى نبيه أن يقرأ عليه القرآن؟!.
حبتك بأعلاق المكارم والعلا *** خصال المعالي قضها وقضيضها
لم تأت هذه المنزلة العظيمة، والرفعة الجليلة بين عشيةٍ وضحاها، ولم يدوِ اسم أُبَيٌّ بْنِ كَعْبٍ في الملا الأعلى ببضاعة مزجاة قدمها، ولا بمناصب نالها، ولا بتزلفٍ أو تملق لينال شهرة أو حظوة.
وإنما نالها لمَّا تسربلَ بالفضائلِ وارتدى *** بردَ العلاَ وأعتمَّ بالإقبالِ
الفخرُ الحقيقي ليس صخبًا يعلو على ألسنة الناس، ولا مدحًا يتردد في الإعلام، ولا مكانة تتزيّن بها المجالس، الفخر الحقيقي أن يعرفكَ الله، أن يقبل عملك الخفي، دعاءك السري، دمعاتك التي لا يراها أحد، أن يُرفع اسمك حيث لا يصل ضجيج، أن يُخلص قلبك قبل لسانك، ويُصَدِقِ قولُكَ فِعلُك.
ميزان السماء ليس كميزان الناس؛ (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى)[عبس: 1 - 6].
أُبَيٌّ بْنِ كَعْبٍ نموذجا عاليا في أن قلوبا تصعد إلى علام الغيوب بما تحمله من فقه عن الله، وعلم مقروناً بخشية الله، وصدق لا نفاق فيه ولا مِراء، في صحيح الإمام مسلم قال أُبَيٌّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟"، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟"، قَالَ: قُلْتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)[البقرة: 255]، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ" .
هنيئاً له الحظُّ الوفاءُ المتمَّمُ *** وهل سِرُّ مسكٍ أُودِعَ الريحَ يُكْتَم
قال الإمام الذهبي: "حَفِظَ أُبَيٌّ عَنْ النبي -صلى الله عليه وسلم- عِلْماً مُبَارَكاً، وَكَانَ رَأْساً فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ"، ولُقب بسيد القراء، وأمرَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- بأخذ القرآن منه.
وفي سنن أبي داود قال عبد الله بن عمر: "صلّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاةً فقرأ فيها، فلُبِسَ عليه، فلمَّا انصَرَفَ قال لأُبي: "أصليتَ معنا؟"، قال: نعم، قال: "فما منعك أن تفتح علي؟"، وجَمَعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِم عِشْرِيْنَ رَكْعَةً.
تلك المكارم لا دنيا مزخرفة *** قد مازج الماء منها الذل والندم
لا يرفع الإنسان إلا عمله وصدقه، والشهرة والرفعة التي تشترى بالمال والدعاية والمنصب تزول بزولها، وتنسى عند انتهاء مصلحتها، كم بقي ذِكرُ الإمام البخاري وليس له صورة تنتشر، ولا منصب يشتهر، ولا دعاية يظهر بها، طاف الآفاقَ ليحفظَ السُنّة؛ فرفع الله ذكره، وأبقى أثره، وأجرى على الألسن اسمه.
أورد الإمام الذهبي في السير قال: "لما قدم الرشيد الرَقة، انجفل الناس خلف ابن عبدالله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم أمير المؤمنين تنظر، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالمٌ من أهل خراسان قدم، قالت: هذا -والله- الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان".
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبسنة سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربكم لغفور شكور.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.
أَمَّا بَعْدُ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟"، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟"، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ لَهُ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا"(أخرجه الْبُخَارِيُّ).
هي النفوس الكبار لا ينخفضُ معدُلها في ميزان السماء إذا لم يُبرقُها لمعان الإعلام، أو تُشهرها وسائل اتصال، تعلو النفسٍ وترتفعُ قيمتُها حينما تسمو عن الترهات، سموٌ تأنف معه النفسُ أن تلج موارد الصخب والاختلاط من أجل مشروب أو منظر.
قيمةُ النفسِ تأبى أن تهُينَها بملاحقةِ فريقٍ تغضبُ لخسارتهِ، أو تهْجُرُ وتطلقُ لهزيمته، أو تؤخرُ الصلاةَ من أجله، قيمةُ النفسِ تَتَرفع أن تُذلَها من أجل لعاعة من الدنيا، أو ذكرٍ يردد بين البشر.
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْحَيَاةِ بِذِلَّةٍ *** بَلْ اسْقِنِي بِالْعِزِّ كَأْسَ الْحَنْظَلِ
شرف النفس وعزتها حين تكرمها بالترفع عن مقاطع سخافات المهرجين، ويوميات الفارغين.
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ *** وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
فكم تحتاج البيوتُ والمحاضنُ والمؤسساتُ العلميةِ والتربويةِ إلى معرفة ما هي الشهرةُ الحقيقية؟ وما هي الأعمالُ التي تكتبُ آثارا للمرءِ في حياتهِ؛ لتبقى ذخراً له بعد مماته؟ قَالَ رَجُلٌ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: أَوْصِنِي، قَالَ: "اتَّخِذْ كِتَابَ اللهِ إِمَاماً، وَارْضَ بِهِ قَاضِياً وَحَكَماً"، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
اللهم زدنا علما وعملا ورزقا وتوفيقا، اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأرزاقنا وذرياتنا، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم