الوفاء

د. منصور الصقعوب

2025-08-01 - 1447/02/07 2025-10-12 - 1447/04/20
عناصر الخطبة
1/فضائل الوفاء 2/الوفاء في حياة الأنبياء 3/الوفاء من أخلاق أهل الإيمان 4/أعظم الوفاء وأجله 5/من صور الوفاء والنبل 6/نماذج من الوفاء المطلوب.

اقتباس

ما أحوج بيوتنا إلى تحقيق الوفاء في زمنٍ صرت ترى فيه الغدر والتقصير، فكن وفياً لأهلك وزوجك، احفظ الحق، وارع العهد، ولا تنسَ الفضل لمن عاشت معك منذ شبابها، وقاسمتك العيش، وربت أولادك. وفي حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- صورٌ من وفائه لخديجه، قالت عائشة: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتُها،...

الخطبةُ الأولَى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه...

 

الوفاءُ صفةٌ نبيلةٌ وخُلُقٌ كريم، يجمُلُ بكلّ أحدٍ أن يتحلَّى به، فهو الإخلاصُ الذي لا غدرَ فيه ولا خِيانَة، وهو البذلُ والعطاءُ بلا حُدود، والجمالُ أن نعيشَ هذه السجِيَّةَ بكل جوارِحِنا، وبكل ما نملِكُ من صدقٍ لا زيفَ فيه ولا نفاق.

 

والوفاءُ الحقُّ لا يأتي إلا من قلبٍ طاهرٍ تدفعُه النيَّةُ الطيبةُ، وهو صفةٌ من صفاتِ الله -تعالى-؛ (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[التوبة: 111].

 

والوفاءُ من صفات الأنبياء (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النجم: 37]؛ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مريم: 54].

 

الوفاءُ من سِمات الإيمان، وفي التنزيل: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)[البقرة: 177]، وهو من صفات المُتقين، ومن أعظم أسباب تحصيل التقوَى، (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 76]، وسبيلٌ إلى أعلى الدرجات، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 10]، وفي مدحِ المُؤمنين (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)[الرعد: 20].

 

يا مبارك: وأعظمُ الوفاء: هو الوفاءُ بحقِّ الله -تعالى-، أن تطيع أوامره وتنتهي عن نواهيه، وتحقق مراده -سبحانه-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[البقرة: 40]؛ (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)[الأنعام: 153]؛ قال ابن جرير: "وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلُوا ذلك أدخلَهم الجنة".

 

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قد حقَّق الوفاء مع ربه، فقد كان أعبَدَ الناس، وإذا صلَّى قام حتى تفطَّر رِجلاه، قالت عائشةُ: يا رسولَ الله! أتصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر؟! فقال: «يا عائشة! أفلا أكون عبدًا شكُورًا؟!»(رواه مسلم).

 

يا مُوفَّق: ثم الوالِدان أحقُّ الناس بوفائك، خاصَّةً مع الحاجة وكِبَر السنِّ؛ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23- 24].

 

فكن وفياً لهما، فهما أصحاب الفضل بعد ربك في وجودك، قَدِّمْهما على أولادك وزوجك، وليس من الوفاء أن تنسى معروفهما بعدما استغنيت ببدنك ومالك، وتجحدَ فضلهما بعدما كبرت واستغنيت، فإن وفيت لهما فأبشر بوفاء أولادك.

 

ومن الوفاء كذلك أن تفي لمن أحسن إليك، ولقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا أروع الأمثال، وتحلَّى بالوفاء لمن أحسن إليه ودافع عنه، وهو عمّه أبو طالب، في الصحيحين: أن العباسَ بن عبد المُطلب –رضي الله عنه- قال: يا رسولَ الله! هل نفعتَ أبا طالبٍ بشيءٍ، فإنه كان يحُوطُك ويغضبُ لك؟! قال: «نعم، هو في ضَحضاحٍ من نار، لولا أنا لكان في الدَّرك الأسفَل من النار».

 

ولقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وفيّاً حتى مع من أرضعته، فقد أتاه وفد هوازنَ بعد قتاله لهم وقد أُسِر من أُسِر من نسائِهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- مُسترضَعًا فيهم، فقالوا له: إنما في الأَسر يا رسول الله حواضِنُك وخالاتُك، فامنُن علينا، فأطلقَ لهم ستَّة آلاف صبيٍّ وامرأة.

وقدِمَت عليه الشيماء -أختُه من الرَّضاعة-، فبسطَ لها رداءَه وأجلسَها معه، ثم أعطاها ما أعطاها.

 

عباد الله: ومن جميل الوفاءِ: الوفاءُ للزوجة، وفي الحياة الأُسريَّة يجبُ أن يكون الوفاءُ حاضرًا في كل الأحوال، فأكبرُ عهدٍ بين إنسانَين هو ميثاقُ الزواج، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أحقُّ ما أوفيتُم من الشروط: أن تُوفُوا به: ما استحللتُم به الفُروج»(رواه البخاري).

والله -تعالى- يقول: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء: 21].

 

فما أحوج بيوتنا إلى تحقيق الوفاء في زمنٍ صرت ترى فيه الغدر والتقصير، فكن وفياً لأهلك وزوجك، احفظ الحق، وارع العهد، ولا تنس الفضل لمن عاشت معك منذ شبابها، وقاسمتك العيش، وربت أولادك.

 

وفي حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- صورٌ من وفائه لخديجه، قالت عائشة: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان -صلى الله عليه وسلم- يُكثِرُ ذِكْرَها، وربما ذبحَ الشاةَ ثم يقطعُها أعضاءً، ثم يبعثُها في صدائِق خديجة، فربما قلتُ له: كأنه لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».

 

وفي "الصحيحين": عن عائشة قالت: استأذنَت هالةُ بن خُويلِد –أخت خديجة– على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرفَ استئذانَ خديجة، فارتاحَ لذلك. وفي روايةٍ: فارتاعَ لذلك، فقال: «اللهم هالَة!».

 

وفي يوم بدرٍ أُسِر العاصُ بن الربيع فيمن أُسِر، وبعثَ أهلُ مكة كلٌّ في فداءِ أسيرِه، فبعثَت زينبُ بنتُ الرسولِ بمالٍ وقلادةٍ تفدِي زوجَها، وكانت هذه القِلادةُ هديةَ خديجة لزينبَ يوم زواجها، فلما رآها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رقَّ رِقَّةً شديدةً، وانبعَثَ الحَنينُ في فُؤادِه، وقال: «إن رأيتُم أن تُطلِقوا لها أسيرَها، وتردُّوا عليها الذي لها، فافعلُوا»، فقالوا: نعم، يا رسول الله.

 

بل وتحلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالوفاء مع الأصهار والأرحام؛ فأوصَى بأهل مِصر خيرًا، وقال كما في الصحيح عن أبي ذرٍّ «إنكم ستفتَحون مصر، فإذا فتحتُموها فأحسِنوا إلى أهلِها، فإن لهم ذمَّةً ورحِمًا» أو قال: «ذِمَّةً وصِهرًا».

 

اللهم ارزقنا الوفاء، واهدنا لأحسن الأخلاق...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

أما بعد: يا كرام: ومن جميل الوفاء: الوفاء مع الخلق جميعاً إذا تعاملت معهم، وفي التنزيل؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1]؛ إن بعتَ أو شريتَ، أو تعاملت أو لاقيت، فديننا دين وفاءٍ لا غدر، وأمانةٍ لا خيانة، لا تخن عاملاً ولا صاحباً، ولا قريباً ولا بعيداً، لأنك تتعامل مع الله الرقيب قبل كل شيء، ونبينا يقول «من أخفَرَ مُسلمًا فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبلُ منه صَرفٌ ولا عَدل».

 

يا موفق: والوفاء لمن علَّمك حرفاً شيمة الكرام، بالدعاء لهم بظهر الغيب، كما قال أبو حنيفة: "ما صليت منذ مات شيخي حماد إلا استغفرت له مع والدي".

وقال أحمد: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي"، وهكذا كان العلماء،  وقلما ساد امرؤٌ إلا بحفظ وفائِه.

 

ومن الوفاء المحمودِ: الوفاءُ لبلدك الذي نشأت فيه وتربيت في أرضه وشربت من ماءه، فدافع عن حياضه، واخدمه من خلال مكان عملك، وكن فيه معول بناء، واحذر أن تكون بوقاً للمناوئين، ظهيراً للمجرمين الذين يريدون بنا الميل العظيم.

 

ومِن أعظم الوفاء لبلدك أن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، محققاً شرع الله، فبهذا تحفظ الديار وتحمى الذمار.

 

ومن الوفاء لولاة الأمر أن لا تنزع يداً من طاعة، ولا تسعى في الخروج عليهم ولا بكلمة، وأن تدعو لهم بالصلاح، وفاء بالبيعة لهم، فهذا دينٌ نتدين به، وفي الصحيح "سَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ" قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "‌فُوا ‌بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُم"، وقال "عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثره عليك"، قال النووي: "أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم".

 

عباد الله: وإن من الوفاءِ لمن أخرجَنا الله به من الظُّلُمات إلى النور، وهدانا به وأرشدَنا: كثرةُ الصلاة والسلام على رسولِ الله، فاللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

الوفاء.doc

الوفاء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات