عناصر الخطبة
1/تخليد القرآن لذكرى بعض البشر 2/أهمية إبراز القدوات من النساء 3/تأملات في قصة امرأة عمران 4/من أعظم أسباب صلاح الأبناء 5/قد يكون المنع مقدمة لعطاء أعظم.اقتباس
كانت تريد ولداً ذكراً ليكون خادماً للمسجد فمنعها ذلك وعوَّضها من ابنتها بنبي رسول لأمة بيت المقدس. قد تريد شيئاً فيحرمك الله منه، ليكون ذلك الحرمان مقدمةً لخير عظيم هو أعظم بكثير مما طلبت؛ فلا تحزن إذا دعوت فما أُجِبْتَ، فقد يكون في علم الله لك أن عدم الإجابة لك هو أعظم نعم الله عليك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله....
رجال كثيرون خلَّد التاريخ أخبارهم، لكن النساء قليل.
وحين يكون تخليد الذكر ليس في التاريخ، ولا في السنة على شرفها، بل في القرآن، فذلك قدر من التشريف عالٍ، ومنزلة في العلو رفيعة.
وكم نحتاج إلى إبراز القدوات من النساء، سيما وأنت في أزمنة غارت القدوات، وربما لمعت التافهات.
امرأة عظيمة خلَّد الله قصتها في كتابه الكريم لتكون مثالاً خالدًا للإيمان الصادق والتسليم المطلق لله، ولتكون قدوة للمؤمنين والمؤمنات.
لم يذكر القرآن اسمها، لكن نسبها لزوجها؛ لأن ذكر الاسم لم يكن يترتب عليه أثر، إنها امرأة عمران، من بيت كريم، زوجها من كبار سدنة بيت المقدس، ولكرامة هذا البيت المبارك اصطفاهم الله (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 33]، وسميت سورة باسمهم هي سورة آل عمران.
وآل عمران هم من آل إبراهيم، لكن خصّهم بالذكر لبيان مزيد الاصطفاء لهم.
فمن هي هذه المرأة وما خبرها؟
امرأة عمران امرأةٌ لم ترزق بذرية، وطال عليها هذا الحرمان فلم تقنط، وحين شاء الله الفرج يسَّر لها الحمل، فطارت بذلك فرحاً، ولا يُدرك قدر هذه النعمة إلا مَن حُرمها.
قابلت هذه النعمة بأن نذرت ما في بطنها لبيت المقدس، يكون سادناً له خادماً فيه، مع والده الصالح، وقالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[آل عمران: 35].
وفي أثناء حملها يموت زوجها، والبلاء بموت الزوج يجعل الزوجة تقوم بأعباء البيت كلها، فقابلت ذلك الابتلاء بالصبر والرضا، ونذرت بعزم صادق أن يكون وليدُها خلفاً لوالده في بيت المقدس، وتأمل قولها (مُحَرَّرًا)؛ أي: محرراً من أمه ودنياه، خالصاً لله خادماً لبيته ودينه فحسب، كل هذا مع حاجتها للولد، وفقد زوجها، ولكنها أرادت لخدمة الدين لا للدنيا، وهكذا تكون التضحية.
واعتبر بقولها برغم كل ما قدمت (فَتَقَبَّلْ مِنِّي)، لتعلم أن الصالحين لا يفتأون يسألون ربهم قبول طاعاتهم.
إذ لا قيمة للطاعة إلا إن قبلها الله، والقبول له أسباب منها الدعاء والافتقار إلى الله، والموفق لا يمن بعمله، ولا يكتفي به دون أن يطلب ربه أن يتقبله، فالله غنيّ عنا وعن طاعاتنا، إنما يتقبل من أعمالنا ما حسن قصده وصلح فعله.
وتمر الأيام ويشاء الله أن تضع وليدتها أنثى.
حزنت لا لشيء إلا لأنها لن تستطيع إتمام نذرها كما يراد، فليست الأنثى كالذكر، كانت تمني النفس بذكر يخدم بيت المقدس، ولكن إرادة الله غالبة، وقالت (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آل عمران: 36]؛ فالذكر يقوم بالأعباء والسدانة ولا يمكن أن تقوم بذلك الأنثى.
وقررت هذه المسلمة القرآنية (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) في أمور كثيرة، في الصفات والقوة في الأحكام والخلقة، هذا ما قرره القرآن، فدع كل دعوة للمساواة فهي منقوضة بهذا.
ومع هذا فقد استسلمت لأمر الله ورضيت بما قسم، فما اعترضت ولا ضجرت، وما يدري المرء عن خيرة الله في الذرية، والمرء إنما يريد من الذرية أن يرفعوه عند ربه وأن ينفعوه في آخرته، وهذا لا تدري في أيّ الجنسين، وكم من أنثى أبرك من مئات الذكور، وهذا ما حصل.
ومِن عزم هذه المرأة على الخير أنها سمت ابنتها مريم وهي في لغتهم بمعنى العابدة، ثم واصلت ذلك بأن دعت لوليدتها أن يعيذها هي وذريتها من الشيطان الرجيم.
وهكذا فلتكن الأم الموفَّقة، لم يُنْسِها ألم الوضعِ، ولا حزن الموضوع الأنثى أن تدعو لابنتها، وذلك من أعظم حق الأولاد على والديهم، أن يتعاهدوهم بالدعاء، ومن الدعوات المستجابات دعوة الوالد لولده.
ثم إنها تسامت عن كل الدعوات الدنيوية، ودعت لها بصلاح الدين، ودعت حتى لذريتها من بعدها، أن تعاذ وإياهم من الشيطان الرجيم، وتلك مسألة شريفة، فاللهم أعذنا وذرياتنا من الشيطان الرجيم.
علم الله من حال امرأة عمران الصدقَ ورغبة الخير، فتقبل منها بقبول حسن، ولأن دعوة الوالد مستجابة، ولأن الأم صالحة، أثَّر ذلك على ابنتها فصارت صالحة، وأنبتها الله نباتاً حسناً، وصلاح الأبناء من أعظم أسبابه صلاح الوالدين.
ولما كان من يخدم بيت المقدس لا بد أن يكفله أحد القيمين، ألقى القيمون أقلامهم أيهم يكفل مريم، فصارت من نصيب زوج خالتها زكريا -عليه السلام-، والقيِّم على بيت المقدس، والمرأة حتى وإن كانت كاملة العقل كمريم، فهي تحت كفالة الرجل وولايته.
فاكتمل الخير لمريم، فهي بنت بيت صالح، وتحت كفالة نبي كريم، فصارت في المسجد تتعبد، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً لا يعهدونه، طعام الشتاء في الصيف، وطعام الصيف في الشتاء، فقال لها من أين هذا؟ (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37].
فتاقت نفس زكريا للولد وكان قد بلغ من الكبر عتياً ولم يُرزق قبل ذلك، ولكن حسن ظنه بربه حمله على أن يقصده ويطلبه، وقال الله عنه: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آل عمران: 38]؛ فجاءت الإجابة بأن رزقه الله يحيى -عليه السلام-.
والذي لم يُزرَق الولد لا يقنط وأمامه نموذج زكريا، وقد رُزِق الولد على كِبَر، وإبراهيم قد رُزِق الولد على كِبَر، فالله على كل شيء قدير، ومادامت الحاجة عند الله فهو الكريم المجيب متى ما دعا العبد بيقين.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
رغبة أم مريم أن تُرزَق بابن يكون قيِّمًا على بيت المقدس، وأن يُعيذ ابنتها وذريتها من الشيطان، لم تذهب سدًى.
فها هي مريم وبمعجزة خالدة تحمل بلا زوج، ويحصل لها من الأحداث ما لا يخفى، لتضع عيسى -عليه السلام-.
ولله الأمر كله، كانت تريد ولداً ذكراً ليكون خادماً للمسجد فمنعها ذلك وعوَّضها من ابنتها بنبي رسول لأمة بيت المقدس، وفي آخر الزمان ينزل ويصلي ببيت المقدس.
قد تريد شيئاً فيحرمك الله منه، ليكون ذلك الحرمان مقدمةً لخير عظيم هو أعظم بكثير مما طلبت.
فلا تحزن إذا دعوت فما أُجِبْتَ، فقد يكون في علم الله لك أن عدم الإجابة لك هو أعظم نعم الله عليك، أولم تكن مريم -عليها السلام- تدعو وهي في الوضع وتتمنى وتقول: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)[مريم: 23].
وبعد فهذه لمحة حول خبر هذه المرأة المباركة، واليقين أن في خبرها أكثر من ذلك، فما قصها ربنا إلا لحِكَم كثيرة، فكم نحتاج للعيش مع أخبار القرآن والنهل من أحداثه.
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم