تأملات في رحلة الحج العظيمة

الشيخ خالد أبو جمعة

2025-06-06 - 1446/12/10 2025-06-15 - 1446/12/19
التصنيفات: الأضحى
عناصر الخطبة
1/في الجمعة عيدان عيد الأضحى وعيد الجمعة 2/تأملات في رحلة الحج المباركة 3/ثبات أهل غزة طريق النصر والتمكين 4/انتظار الفرج بعد الشدة نجاح وفلاح 5/الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى

اقتباس

مقامات الحج تعبير رمزيّ لمفارَقات الحياة، ولوجودها، والتنوع جزء أصيل في حياة المسلمين، بين النور والظلام، والخير والشر، والحق والباطل، ورحلة الحج إيجاز لرحلة الحياة، في تنوُّعِها وتدافع من فيها؛ إذ تتجلَّى في الحج الحركة والسكون، متضادتان، لكنهما يشكلان معًا صورة الحج المتكاملة، بل ملخَّص للعالَم بأسره...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله العزيز الرحيم، الرزَّاق الكريم، يفيض على عباده فيغمرهم بجوده وإحسانه، خزائنُه لا تنفدُ، عطاؤُه لا ينقطع، جادَ على عباده بالخيرات، ودلَّهم على الطاعات، وحذَّرَهم من المحرَّمات، وأنعَم عليهم بمواسم الخيرات، نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لا حكمَ إلا حُكمُه، ولا شرعَ إلا شَرعُه، ولا دِينَ إلا دِينُه؛ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 85]، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، عبده ورسوله، عظمت به المنة، وتمت به النعمة، وكملت بشريعته الملة، فمن أطاعه فقد أطاع الله، فله الجنة، ومن عصاه فقد عصى الله، فله النار، صلى الله عليه وعلى آل بيته الأطهار، وأصحابه الكرام، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

وبعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه، واشكروه على ما أعطاكم، واذكروه إذ هداكم، فلولا هدايته لكم لضللتم، ولولا عطاؤه لهلكتُم؛ (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[الْبَقَرَةِ: 198].

 

أيها المؤمنون: هذا يوم عظيم، من أيام الله -تعالى-، اجتَمَع فيه عيدُ الجمعة مع عيد عرفة، وهو اليوم الذي يوافق وقوفَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، حين كَمُلَ الدينُ، ونزَل عليه قولُه -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]، ما أعظمَه من يوم؛ فهو يوم كمال الدين، وتمام النعمة، ورضا الله -عز وجل- عن المسلمين وعن الأمة.

 

أيها المرابطون: مقامات الحج تعبير رمزيّ لمفارقات الحياة، ولوجودها، والتنوع جزء أصيل في حياة المسلمين، بين النور والظلام، والخير والشر، والحق والباطل، ورحلة الحج إيجاز لرحلة الحياة، في تنوُّعِها وتدافع من فيها؛ إذ تتجلَّى في الحج الحركة والسكون، متضادتان، لكنهما يشكلان معًا صورة الحج المتكاملة، بل ملخَّص للعالَم بأسره، كيف لا، وهي تذكرنا بقصة الخليل إبراهيم -عليه السلام-، سيرة نبي الله -تعالى- من أعجب السير التي كررت في القرآن الكريم، سيرة حافلة بأحداث كثيرة؛ ففيها هجرة الخليل ورحلاته، وفيها دعوته للمشركين ومناظراته، وفيه صبره وثباته في ابتلاءاته، وما ذكرت هذه الابتلاءات في القرآن الكريم، بهذه التفصيلات إلا ليستفيد منها المسلمون؛ نبراس نور لهم، ولاسيما في أزمنة المحن والفتن، وتبديل الدين، وتحريف الشريعة، ولبس الحق بالباطل، وبيع الدين بثمن بخس، بل بذله بالمجان لأعداء الله؛ لإرضائهم من دون الله.

 

وفي قصة الخليل -عليه السلام- التمكين بعد الابتلاء، والإمامة عقب الثبات، وذلك ظاهر في قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[الْبَقَرَةِ: 124].

 

إن حياة خليل الرحمن -عليه السلام- ملحمة إيمانيَّة جامعة تربويَّة، هي من أعظم الدروس والعِبَر المتكررة لجيل بعد جيل، في حياته درس الفرج بعد الشدة، ودرس التمكين على الأعداء الكفرة الفجرة، مواقف ومشاهد تثبت المسلم في مواقف المحن، وتمنحه الثقة بالله، وحسن التوكل عليه، ويصبر صبر الواثق من ربه، بأن مع العُسْر يسِرًّا.

 

أيها المرابطون: كونوا كما كان الخليل -عليه السلام- على ثقة بأن الله سيجعل لنا العُسْر يُسْرًا، كونوا على يقين بأن الله سيجعل لنا بعد الظُّلْم والجَوْر عدلًا، كونوا على يقين بالله بأن الله سيجعل بعد الخراب والدمار بناء وعمارًا، كونوا على يقين بأن الله سيجعل لنا من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هَمٍّ فرجًا.

 

أيها المرابطون: أيامكم هذه أيام هدي وأضاح، وعج وثج، وتكبير وتهليل، وحمد وشكر، فكبروا طائعينَ، وهللوا خاضعينَ، وسبِّحُوا خاشعينَ، وعظموا الله مكبرين، عند ذكرك يا الله تصمت الدنيا كلها، يتكلم القلب مستسلِمًا لله، ترفع الأكف طالبة فرجه ورضاه.

 

يا أهل بَيْت الْمَقدسِ، يا أهل فلسطين: إنَّ صبرَكم ورباطَكم في أرضكم وأنتم تتحمَّلون الأذى بكل أشكاله وأنواعه، تُزلزلون قلاعَ الكافرينَ، وحصون المنافقين، وتحطمون أوكار الفاسدين الفاسقين، تهدمون مكر وكيد وغدر المتآمرين.

 

واعلموا -يا أهل فلسطين بمدنها وقراها، ومخيماتها وبلداتها، المحاصَرة- أن ثباتكم في أرضكم كالجبال الراسيات على البأساء والضراء، وعلى الظُّلْم والظُّلَّام والمظلمة، صبركم، ثباتكم، قد حيَّر العالَمَ بأَسْرِه؛ لأنكم تثقون بموعود الله؛ (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)[الرُّومِ: 6]، فأبشروا، فالله أقرب إليكم من حبل الوريد، فادعوه، أبشروا، فالفرج قريب، والله مجيب، أبشروا حتمًا، فإن الله لن يضيعنا؛ (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الرُّومِ: 47]، أبشروا، الدنيا ساعة ولن تطول، والعمر ماض، وكلنا راحلون، والخلق أجمعون زائلون، وعند الله تجتمع الخصوم.

 

أيها المرابطون: إن شدة البلاء وطوله وعنفه لا يقطع حسن الظن بالله، ولا يجلب اليأس؛ فَقَدْ فَقَدَ سيدنا يعقوب -عليه السلام- أحب أبنائه، وتبعه الآخر، ثم فقد بصره، وقال -عز وجل- على لسان يعقوب: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)[يُوسُفَ: 87]، وأنتم لا تيأسوا من روح الله، لا تقنطوا من رحمة الله، الروح القرآنيَّة روح متفائلة، لا تعرف اليأس ولا القنوط ولا التشاؤم ولا الإحباط، قال الشاعر:

قُلْ للذي ملأ التشاؤمُ قلبَه *** ومضى يُضَيِّقُ حولَنا الآفاقَا

سِرُّ السعادةِ حُسْنُ ظَنِّكَ بالذي *** خلَق الحياةَ وقسَّم الأرزاقَا

 

وقال -تعالى-: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 52]، ويقول: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)[يُوسُفَ: 86].

 

أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مُعِيد الجُمَع والأعياد، رفع السماء بلا عماد، وأرسى الأرض بالأوتاد، وتعالى عن الصاحبة والولد والأنداد، والصلاة والسلام على خير خلق الله، نبيه -عليه الصلاة والسلام- خصه واصطفاه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

وبعدُ، أيها المرابطون: أطيعوا الله -عز وجل-، وتقربوا إليه بذبح ضحاياكم، وكبروه واشكروه، وكلوا منها وأطعموا واهدوا.

 

أيها المسلمون: افرحوا بعيدكم، كلوا واشربوا ولا تسرفوا، وتوبوا إلى ربكم وأنيبوا إليه، واعتصِموا بحبله ولا تفرَّقوا، كونوا إخوانًا كما أمركم الله، تعانقوا وتصافحوا، تواصلوا وتسامحوا، تعاونوا على البِرِّ والتقوى، وكونوا على حَذَرٍ ممَّا يُحاك ضدكم، ويراد به تفريق صفكم، وإيقاع الفتنة بينكم.

 

لنملأ قلوبنا وعقولنا وجوارحنا وأجواءنا بالتكبير، لنملأ سمع الزمان والمكان بهذه الكلمة العظيمة، لنملأ المسجد الأقصى المبارَك ومدينة القدس بالتكبير والتهليل والتعظيم، نرفعها عندما نقع في الفتن والمحن.

 

الله أكبر ترفعنا فوق هذه الدنيا، فوق شدائدها ومغرياتها، فوق صغائرها وتفاهاتها، فوق ألمها وهمها وغمها، لتصلنا بالله -عز وجل- بالخلود، لتفتح لنا أبواب الجنة في الآخرة، ولتفتح لنا أبواب المستقبل الزاهر المنشود، في هذه الحياة الدنيا، كما وعدنا الله -عز وجل- والرسول -عليه الصلاة والسلام-.

 

بكلمة لا إله إلا الله، تجعل قوتنا من قوة الله، ومددنا من مدده -عز وجل-، فلا نهاب إلا الله، ولا نسأل إلا الله، ولا نرجو إلا الله، ثقتنا بالله وبقدرته عظيمة كبيرة، نهتف بها في كل حين، في كل عيد، نهتف بها في كل أحوالنا بقلوبنا قبل ألسنتنا، نهتف بها في عباداتنا وعاداتنا، في خلواتنا وجلواتنا، نهتف بها في أمننا وخوفنا، في فرحنا وحزننا، هذه كلمة يهتف بها كل جريح، كل ثكلى، كل يتيم، هذه الكلمة "حسبي الله ونعم الوكيل" يصرخ بها كل مظلوم، يجأر بها كل محروم.

 

اللهمَّ اجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، اللهمَّ تقبل ذكرنا وشكرنا، وارزقنا تقوى القلوب، اللهمَّ وأعد علينا بركة هذه الأيام بالأمن والأمان والسلامة والإسلام، اللهمَّ أجب دعوتنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهمَّ عليك بمن ظلمنا وعادانا، اللهمَّ إنَّا نستودعك المسجد الأقصى فاجعله في حفظك ورعايتك وأمنك وأمانك، اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ.

المرفقات

تأملات في رحلة الحج العظيمة.pdf

تأملات في رحلة الحج العظيمة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات