اقتباس
وكلما كان الخطيب كذلك؛ متثبتًا مما يقول، ومتأنيًا فيما يعرض على الجمهور، كلما وثق فيه هذا الجمهور، وأخذوا كلامه كأنه مسلَّمات، وازدادت استفادتهم منه، ورجعوا إليه في الملمات، وهذا غاية ما يتمنى كل خطيب أن يبلغ من جمهوره...
عادتي إذا ما تناولت تجربة خطابية لأحد الخطباء أن أحاول أن أجمع جميع ما ترك من مواد علمية؛ مسموعة ومرئية ومقروءة، ثم أحاول أن استعرضها وأمُر عليها كلها ولو مرورًا سريعًا كي أُكَوِّن صورة شاملة عن الخطيب الذي أتناول تجربته قبل أن أقوم بالدراسة التفصيلية لبعض خطبه ومحاضراته... لكنني في هذه التجربة وجدت الأمر شاقًا وعسيرًا؛ لأن شيخنا قد ترك تراثًا ضخمًا متنوعًا لا يكاد ينحصر؛ خطب جمعة، ومحاضرات أسبوعية وشهرية، ولقاءات في المناسبات، وحضور كثيف في القنوات الفضائية وشروح مرئية في علم الحديث، وكتب ومجلدات ومطبوعات... فكيف أحيط بكل ذلك أو أجمعه؟!
لهذا السبب ترددت حينًا أن أضع تجربته الخطابية موضع البحث؛ خشية أن أبخسه حقه أو أتجنى عليه أو أحمِّل كلماته ما لم يقصد أو تكون نظرتي جزئية منقوصة غير منصفة... لكنني غامرت وبدأت هذه التجربة الخطابية لذلك الشيخ الوقور وأنهيت فيها حلقتين استعرضت فيهما بعض مميزات الشيخ الخطابية، وكانت كالتالي:
أولًا: جمعه بين العلم والتأثر والتأثير.
ثانيًا: التحامه بواقع أمته.
ثالثًا: تقعيد القواعد وتأصيل الأصول.
رابعًا: القوة في الدفاع عن حياض الشريعة.
خامسًا: قطع الخطبة للفائدة أو الضرورة.
سادسًا: الحرص على تصحيح المفاهيم المغلوطة.
سابعًا: ضرب الأمثال لتوضيح المقال.
وموعدنا الآن مع تمام ذلك:
ثامنًا: حسن التقديم والتقسيم:
فالخطيب الجيد هو من يمهِّد بين يدي موضوعه بمقدمة مناسبة شديدة التعلق به؛ تبين أهميته وخطورته وضرورته؛ فإن هذا يفتح أفهام الجمهور لكلام الخطيب ويهيئ له قلوبهم، ويزرع في نفوسهم الحرص على حسن الاستماع والانتباه له فلا يفوتون من كلامه كلمة ولا حرفًا.
ولقد كان خطيبنا -رحمه الله- من المجيدين في ذلك، فتسمعه في بداية خطبة: "الانتكاس"([1])، وهو يقول: "أيها الإخوة الكرام: إنما يُعرف قدر خطر العلة بشدة فتكها وكثرة ضحاياها والمبتلين بها؛ فالطاعون -مثلًا- وهو الكوليرا، من أخطر الأمراض... لكثرة ضحاياها وأن الذين يموتون بها ألوف، وإنما قام العلاج أصلًا على دفع العلة لاستبقاء الإنسان، فإذا مات هذا الإنسان لم يعد للعلاج موضع ولا للنظر فيه محل، وإن من أخطر الأمراض على الإطلاق لشدة فتكها وكثرة ضحاياها: مرض الانتكاس"، وإلى هنا تلمس حسن المدخل والاستهلال.
ثم يبدأ شيخنا في التقسيم والتميز والتفريق بين نوعي الانتكاس، فإن هذا يعصم ذهن المستمع من التشتت والخلط بين الصور المتعددة للشيء الواحد، فيقع كلام الخطيب في موضعه الذي أراده، فيبدأ شيخنا -بعد التقديم- في التقسيم قائلًا: "الانتكاس بشعبتيه؛ الشعبة الأولى الردة عن الدين كلية، والشعبة الأخرى هي ضعف الالتزام والتقهقر في التمسك بتعاليم الدين".
وتسمعه في سلسلة: "كن كهؤلاء"، وفي بداية خطبة: "سعد بن أبي وقاص"([2])، من تلك السلسلة يبدؤها بأنسب ما يمكن أن تُبدأ به؛ بقول الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110]، ثم يبيَّن تعلق هذه الآية بالصحابة -رضي الله عنهم- فيقول: "قال جماعة من أهل العلم من المحققين منهم إن هذه الآية خاصة بأصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا تتعداها إلى غيرهم، وقال آخرون: بل تتعدى إلى غيرهم إن كانوا على نهج الصحابة، وعلى أي حال فإن الآية نزلت فيهم، فهم المقصودون أولًا بها...."، ثم انتقل من تمجيد جيل الصحابة ككل إلى موضوعه الخاص؛ ذكر سيرة أحدهم وهو سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
وإنك لتلمس مثل هذا التقديم الحسن في جل خطب فضيلته.
تاسعًا: اعتماده على الصحيح، وتثبته مما يقول:
فما من خطيب سمعته إلا كانت منه رواية لم يتحقق صحتها، أو حديثًا لم يتبين له ضعفه، أو قصة أوردها بلا سند أو عزو... إلا أني عجزت أن أقف على مثل هذا لصاحب تجربتنا هذه، ولا عجب فقد علَّمه علم الحديث: التثبت والجرح والتعديل ووزن كل كلمة بميزانها، ولن أورد هنا نموذجًا خاصًا من خطبه كدليل وبرهان، بل جميع خطبه ودروسه ومحاضرات كلها أبلغ دليل وأوثق برهان على ما أقول.
وكلما كان الخطيب كذلك؛ متثبتًا مما يقول، ومتأنيًا فيما يعرض على الجمهور، كلما وثق فيه هذا الجمهور، وأخذوا كلامه كأنه مسلَّمات، وازدادت استفادتهم منه، ورجعوا إليه في الملمات، وهذا غاية ما يتمنى كل خطيب أن يبلغ من جمهوره... وطريق تحقيقها واضح جلي ظاهر؛ أن تتقن مصادر خطبتك، وتعزو كل كلمة فيها، وتجيد حفظ نصوصها فلا تتلعثم فيها أو تخلط، ولا تخوض فيما لا تعلم، وأن تؤصل لكل لفظة مما تعلم... فإن فعلت -أخي الخطيب- بلغت من عقول جمهورك وقلوبهم جميع ما أردت.
***
القسم الثاني: المآخذ والاستدراكات:
لـمَّا قطعت على نفسي العهد في هذه السلسلة؛ "سلسلة خطباء في الميزان"، أني لا أذكر مميزات خطيب إلا وأذكر بعدها أخطاءه، خاطبت نفسي قائلًا: ولماذا ذكْر العيوب؟! أليس الأولى مع أصحاب الفضل أن نذكر خيرهم ونتغاضى عن نقصهم؟! خاصة وقد قال سعيد ابن المسيب -رحمه الله-: "إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"([3]).
لكنني لم ألبث أن راجعت نفسي قائلًا: إنما يحق لنا أن نصنع ذلك إن تكلمنا عن شيخنا نثني عليه ثناء عامًا عابرًا في أحد المحافل وفقط، أما وقد وضعنا تجربته قيد الفحص والدراسة، ونصبناه قدوة في مجال الخطابة يتعلم منه المتخصصون من الخطباء، فإنه من الضروري أن نذكر الأخطاء مع الفضائل؛ لئلا يقتدي به فيها خطباؤنا، خاصة مع كثير حبنا لمن نعرض تجاربهم الخطابية وتوقيرنا لهم؛ فإن هذا الحب والتوقير قد يدفعنا أن نقلد ونقتدي بكل ما فعلوه ولو جانَب الصواب وأخطأ الحق، مع أن "هذه الدنيا لا يكمل فيها شيء"، ومع أن "كل ابن آدم خطاء"([4]).
لذلك دأبت على ذكر المثالب مع المميزات، وما هو مني إلا اجتهاد ورأي أطرحه وطرحه غيري، قد نصيب وقد نخطئ... ومن الملحوظات التي أخذت على الشيخ الجليل الفاضل ما يلي:
أولًا: التشعب وعدم التركيز على الموضوع أحيانًا:
فأحياناً -رحمه الله- يتكلم في موضوع ما، ثم يترك موضوعه فيتطرق إلى موضوع أو موضوعات أخرى، ثم يعود إلى موضوعه الأول فيتمه... وأحيانًا حين يترك شيخنا الموضوع الأساسي يتشعب في موضوعات شديدة الصلة بموضوعه قد تخدمه، وأحيانًا تشعر أنما هي فائدة تذكَّرها فاستطرد فيها مع أنه لا علاقة لها بالموضوع.
ونجد النوعين فيما فعله فضيلته في خطبة: "جزاء المخالفة"([5])؛ حيث بدأها بمخالفة الرماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد وعواقب ذلك، ثم تطرق إلى موضوعات عدة؛ فتكلم عن أفغانستان ثم عن العراق وما وقع فيهما، ثم استطرد قليلًا في الدقيقة الثالثة عشر في شرح قصة بيت شعر للمتنبي، ثم تكلم عن إنكار مشروعية ختان الإناث، ثم انتقل إلى مسألة فقهية وقاعدة أصولية، وذكر فيها قصة "ذات الوشاح" في الصحيحين، والقصة نفسها لا تخدم الموضوع الأساسي؛ وإنما ذكرها فضيلته استطرادًا أو ليعرِّف بالمرأة، وغرضه أن يقول بعدها: "هذه المرأة كان لها خص (خباء) في المسجد"([6])، ليبين بعد ذلك الخلاف الفقهي في جواز مكث الحائض في المسجد، ثم عاد إلى الموضوع الثاني؛ الذي هو ختان الإناث الذي تركه ودخل في الثالث، ثم خرج إلى موضوع جديد عمن يتجرؤون على الله -تعالى- وعلى شريعته من المعاصرين ومن الأقدمين... ثم بعد هذه الرحلة الطويلة المتشعبة يعود فضيلته إلى موضعه الأصلي في الدقيقة التاسعة والعشرين من الخطبة.
فجميع ما ذكر فضيلته من استطرادات ومواضيع بدءًا من الدقيقة الثانية عشر إلى الدقيقة التاسعة والعشرين كلها تخدم موضوعه الأصلي، ومثل هذا لا يعاب أبدًا، بل هو من مميزات قوة الخطيب وأمارة على ربطه خطبته بالواقع، وهذا في غاية التوفيق والروعة.
لكن من النوع الثاني من الاستطراد؛ ذلك الذي هو بعيد التعلق بموضوع الخطبة أو لا يتعلق بها أصلًا: قصة بيت الشعر للمتنبي، ثم قصة "ذات الوشاح"، وقد أشرت إليهما... ولعله لن يستبين لك ما أقصد حتى تستمع إلى الخطبة المذكورة التي لا يتسع المقام لنقل نصها هنا.
وقد أشار فضيلته أكثر من مرة إلى طريقته هذه؛ من الاستطراد ثم العودة، ونبه مستمعيه لئلا يجدوا مشقة في متابعته.
ثانيًا: فقدان الحماسة في الإلقاء أحيانًا:
وأقول: "أحيانًا"؛ لأن هذا ليس الغالب على أسلوب فضيلته في خطبه؛ بل جل خطبه لا ينقصها الحماس، ولكن نلحظ في بعضها تباطؤًا وافتقادًا للحس الخطابي، فتشعر أنما يلقي شيخنا -مع غزير علمه ودسامة مادته- محاضرة هادئة وليس خطبة جزلة تحتاج إلى حماسة في العرض وقوة في الأداء، ولعلك تلحظ ذلك حين تستمع إلى فضيلته في خطبة: "شروط العمل الصالح"([7])، فإنها -رغم ما تحمل من مادة علمية متميزة قد أشدنا ببعضها فيما مضى- إلا أنها في أغلب مقاطعها تفتقد الأسلوب الخطابي المتحمس القوي، فتشعر كأنك تستمع إلى محاضرة متأنية هادئة!
هذا، ولا أدعي أبدًا أنني قد وفيت هذه التجربة الخطابية الثمينة حقها؛ لكنه جهد المقل، ويكفيني أني قد فتحت الباب ولفتُّ النظر... وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من نقص أو زلل فمني ومن الشيطان... والله أسأل أن يتجاوز ويغفر ويرحم.
[1])) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=w8pm-QTFXDI&t=33s
[2])) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=fExop3CZq8k&t=28s
[3])) صفة الصفوة، لابن الجوزي (1/347)، ط: دار الحديث القاهرة.
[4])) رواه أبو داود (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسنه الألباني (المشكاة: 2341).
[5])) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=Lh6Z6NMtVf8
[6])) وقع هذا في الدقيقة السابعة عشر من الخطبة المذكورة.
[7])) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=9vqVZhDron4&t=20s
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم