حي على الفلاح -1

الشيخ د عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2025-12-05 - 1447/06/14 2025-12-22 - 1447/07/02
عناصر الخطبة
1/عظمة الآذان للصلاة 2/معاني الفلاح في الأذان 3/مقاصد نداء الناس بالفلاح في الأذان 4/من صور الفلاح في المساجد 5/نماذج رائعة في إجابة منادي الفلاح.

اقتباس

حي على الفلاح: دعوة للخروج من لهوِ الدنيا، والتحرر من الانشغالِ بها عن الآخرة، فمن بقي في أسر الدنيا ولم يجب نداء الله؛ فقد أوقع نفسه في متاهات الضياع، وندم حين لا ينفع الندم...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن النفس الإنسانية بفطرتها تحب الظفرَ بالمنافع الدنيوية، والحصولَ على المصالح الحياتية، المادية منها والمعنوية؛ لأنها تجد من ورائها راحتها، وجلب خير مرغوب لها؛  غير أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يختار من تلك المصالح والمنافع إلا ما كان حلالاً، ويدع ما كان حرامًا؛ لأنه يرى أن المنفعة الدنيوية إذا كانت محظورة فهي مضرة أخروية، وقليل ممنوع يفنى، قد يَحرِم صاحبَه من كثير عظيم يبقى؛ فالمنفعة الحقيقية في نظره هي المنفعة الأخروية؛ لأنها سبب سلامته من عذاب ربه، وظفره بجنته ورضوانه، قال -تعالى-: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].

 

وقال: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الشورى:36]، وقال: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه:131].

 

وعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟"(رواه مسلم).

 

عباد الله: لقد سمعتم قبل قليل ذلك النداء الخالد الذي يتردد على الأسماع بجميل كلماته، وعذوبة عباراته، وحسن تناسقها، وجودة ترتيبها، وعدم الملالة من تكرار بعض ألفاظه فيه؛ إنه نداء الأذان الذي نسمعه خمس مرات في اليوم والليلة، ترتله المآذن على أسماعنا، وتعلن به في آفاقنا بأن هناك دعوة من الله -تعالى- يجب عليكم أن تتركوا كل شيء لأجل الاستجابة لها؛ لتنالوا الشرف الكبير بحضورها.

 

 ولا يفر من الأذان وإجابة مناديه إلا الشيطان، ومن زين له الشيطان وهواه سوء عمله، وصداه عن ذكر الله وعن الصلاة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة:9].

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَحَالَ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ؛ فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ، فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ"(رواه مسلم).

 

إنكم تسمعون -معشر المسلمين-في الأذان كلما رفُع قول المؤذن: "حي الفلاح، حي الفلاح"؛ فهل فكرتم في معنى هذه العبارة السامية؟

وهل أطلقتم عِنان عقولكم في ساحات التأمل في مضامينها الواسعة، ومعانيها الرحبة، التي اشتمل عليها هذا اللفظ الشرعي الوجيز؟

 

إن المؤذن حين يقول: حي الفلاح، يريد أن يقول لكم: تعالوا إلى الفوز العظيم، هلموا إلى الفوز الحقيقي، أقبلوا على الفوز الباقي الذي ينقل صاحبه إلى سعادة الأبد؛ إنه فوز ليس كأصناف الفوز في الدنيا، ليس فوزاً برئاسة أو وظيفة، ولا فوزاً بتجارة أو جائزة، ولا فوزاً في مباراة رياضية، ولا فوزاً بشهرة واسعة.

 

حي على الفلاح: دعوة إلى الفوز بامتثال أمر الله -تعالى- ورسوله، وتلبية لنداء طاعة الله وطاعة رسوله، قال -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:71].

 

حي على الفلاح: دعوة لإطلاق النفس من قبضة الشيطان، عدوِّ الإنسان الأول؛ لأن من بقي في قيد الشيطان وتولاه من دون الله؛ فقد خسر خسرانًا مبينًا، وضل عن طاعة ربه ضلالاً بعيدا، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)[النساء:119]، وقال: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المجادلة:19].

 

حي على الفلاح: دعوة للخروج من لهوِ الدنيا، والتحرر من الانشغالِ بها عن الآخرة، فمن بقي في أسر الدنيا ولم يجب نداء الله؛ فقد أوقع نفسه في متاهات الضياع، وندم حين لا ينفع الندم.

 

حي على الفلاح: دعوة إلى السلامة من لهيب الذنوب، والتطهر من أدرانها؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَنَامُونَ؛ فلَا يُكْتَبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَسْتَيْقِظُوا"(رواه الطبراني).

 

أيها المؤمنون: ينادي المؤذن قائلاً: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ليُسمِع النائم فيقول: قم؛ فقد حان وقت الصلاة، قم إلى الفوز؛ فالصلاة خير من النوم، المسجد ينتظرك لتجد لك فيه العطايا السَنِّية، والهدايا الثمينة؛ عن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ"(رواه مسلم).

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه مسلم).

 

وينادي المؤذن قائلاً: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ليُسمع المنشغلَ بتجارته أو وظيفته، أو عمله أو لعبه ولهوه؛ ليقول له: حان وقت الصلاة، أقبل على المسجد، واترك ما أنت فيه؛ ففي المسجد فوزك الكبير، قال الله -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور:36-38].

 

فمن لم يجب نداء الفلاح فما حاله يا عباد الله؟

إذا لم يصل؛ فهذا خسارته ما أعظمها، وخطيئته ما أكبرها، وعاقبته ما أسوأها؛ قال الله -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)[مريم:59-60].

 

وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ"(رواه أحمد والطبراني).

 

وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ"(رواه البخاري).

 

وأما إذا لم يصل في المسجد، وإنما صلى في بيته أو دكانه أو غيرهما فصلاته صحيحة لكنها ناقصة، ولا يسلم من إثم ترك الجماعة في المسجد إذا كان قادراً على حضورها، ولكنه لم يفعل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ" قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: "خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ"(رواه أبو داود، وابن ماجه).

 

أيها الإخوة الكرام: لو سألتم عن الفلاح الذي يلقاه من يحضر المساجد للصلاة، والفوز الذي يناله في مداومته على الحضور في تلك البقاع الطاهرة لعبادة الله بالصلاة؛ فإن من الفلاح هناك: الظفر بالأجر الكبير؛ كثرة حسنات، ورفعة درجات، ومحو سيئات.

 

عَنِ أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ"(متفق عليه).

وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً"(رواه مسلم).

 

ومن الفلاح في المسجد: إتقان الصلاة، ومعرفة أحكامها وآدابها؛ فإن بعض من يصلون في البيوت يسرعون في صلاتهم، ولا يؤدونها على كيفيتها الصحيحة، ويكثر الخطأ والسهو لديهم، أما من يصلي في المسجد؛ فإنه في الغالب يصلي صلاة فيها تؤدة وتمهل، يعطي كلاً من القيام والركوع والسجود حقه من الاطمئنان.

 

 كما يعرف من الإمام الكيفية الصحيحة للصلاة، ويعلم عدداً من أحكام الصلاة على الصورة الصحيحة؛ كسجود التلاوة، وسجود السهو، وغير ذلك.

 

ومن الفلاح في المسجد: تصحيح التلاوة، وحفظ بعض السور القصيرة والآيات، من خلال الصلاة الجهرية وراء الإمام المتقن.

 

ومن الفلاح في المسجد: الخشوع في الصلاة، وحصول أثر قراءة القرآن في القلب، لاسيما بعد إمام حسن الصوت، قدوة صالحة بين الناس، فكم من مأموم أثرت عليه آية أو آيات سمعها من إمام مسجد، فغيرت بعض أحوال حياته السيئة إلى أحوال صالحة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور:35-37]؛ قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِير"(رواه البخاري).

 

ومن الفلاح في المسجد: اللقاء بالجيران والأصدقاء، ومعرفة أحوالهم، والاستئناس بهم، وانتفاع بعض المصلين ببعض في علم أو جاه أو خبرة، فإذا غاب أحدهم سألوا عنه؛ فإن كان مريضًا زاروه، وإن كان مسافراً دعوا له وحفظوه في أهله وماله، فما أعظم المسجد من وسيلة لجمع المسلمين، وتآلفهم وتحاببهم!

 

ومن الفلاح في المسجد: معرفة دين الإسلام: عقيدة، وشريعة، وآدابًا؛ ففي المساجد: يسمع المسلم الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والفائدة النافعة، ويصحح معلوماته الخاطئة، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟"، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ"(رواه مسلم).

 

يُنادِيكَ المؤذِّنُ للصَّلاةِ *** فَنِعمَ الصوتُ في هذيْ الحياةِ

نِداءٌ يَبعثُ الأرواحَ جَذلَى *** لِتُطلَقَ من إِسارِ المُلهياتِ

ويَرفعُ عن صفاءِ القلبِ ليلاً *** تَكاثَفَ مِن عِناقِ السيئاتِ

إذا سمعَ المُحبُّ "اللهُ أكبرْ"*** تهلَّلَ وجهُه بالبُشْرَيَاتِ

يُنادِي للفلاحِ نِداءَ صِدقٍ *** فَحيَّ على السلامةِ والنجاةِ 

فكم خيرٍ يَفيضُ به أَذانٌ *** يَلمُّ الرُّوحَ من بعدِ الشتاتِ

فطُوبَى للذي يَبقَى مُجيبًا *** متى سمِعَ النداءَ إلى الصلاةِ

 

نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن أوليائه المفلحين.

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن الصالحين لما عرفوا عظمة الفلاح في بيوت الله بادروا إليها، وواظبوا عليها، حتى في حال عذر بعضهم عن حضورها؛ وقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة:

فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُصَلِّي الْقِبْلَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَبْعَدَ مَنْزِلًا مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الرَّمْضَاءِ وَالظُّلْمَةِ، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَنُمِيَ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ يُكْتَبَ لِي إِقْبَالِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِلَى أَهْلِي إِذَا رَجَعْتُ، فَقَالَ: "أَعْطَاكَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَنْطَاكَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مَا احْتَسَبْتَ كُلَّهُ أَجْمَعَ"(رواه أبو داود، والبغوي).

 

وعَنْ عَبْدِ اللهِ اين مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مَنْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ"(رواه مسلم).

 

وانظروا هنا إلى العالمين الكبيرين: سعيد بن المسيب، والأعمش، ومداومتهما على صلاة الجماعة في المسجد؛ قال عِمْرَانُ: إنَّ سَعْيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، لَمْ تَفُتْهُ صَلَاةٌ فِي جَمعٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَقْفِيَتِهِمْ، وَلَمْ يَلْقَوْهُ خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ ".

وقال وكيع: "كَانَ الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفتُ إِلَيْهِ قريبًا من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة".

 

فيا -عباد الله- الفلاح في المساجد؛ فالزموها، وداوموا على الصلاة فيها، واعلموا أنها خير البقاع، وخيرها متعدٍّ إلى أهلها، فهم من خير الناس، ولو كان الناس في الحضور إلى المساجد كما هم في حضور الأسواق والشوارع؛ لحصل الفلاح الكبير، وقلت المشكلات، وعمت الخيرات.

 

نسأل الله أن يجعلنا ممن لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة.

 

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...

 

 

المرفقات

حي على الفلاح -1.doc

حي على الفلاح -1.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات