عناصر الخطبة
1/بعض خصائص العصر الرقمي الذي نعيشه 2/نصائح ووصايا لكل مؤثر مشهوراقتباس
المكانة التي يصل إليها المؤثرُ نعمةٌ، ومِنَ النِّعَم ما يعلو شأنُه إذا قُرِنَ بالمسؤولية، وحُسْنُ هذه النعمة أن يستشعر أنَّها أمانةٌ، وأَنْ يُقدِّر ما تحمله من تَبِعاتٍ دينيةٍ وأخلاقيةٍ ووطنيةٍ، فليس التأثيرُ وجاهةً، بل تكليفٌ خفيٌّ، يُقاس بعمق الأثر النافع لا بعدد المتابعينَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، خَلَق الإنسانَ علَّمَه البيانَ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، مفيضُ الإحسانِ، ومبدعُ الأكوانِ على نظامٍ وإتقانٍ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المرسَلُ رحمةً للأنام، يهدي به إلى صراطٍ مستقيمٍ وبيانٍ، صلواتُ ربي وسلامُه عليه عددَ ما خطَّه القلمُ وأحصاه الميزانُ، وعددَ ما تنفَّس الصبحُ وأضاء المكانُ.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّها زادُ المؤمنِ في دِينه، وحِرزُه عند لقاء مولاه، مَنْ تمسَّك بها سَعِدَ، ومن أعرض عنها شَقِيَ وابتعد، فالتقوى ميزانُ الثبات، وهي الحصنُ الذي يحفظ الفكرَ من الانحراف، والنفسَ من الاضطراب، والمجتمعَ من التشتُّت.
في هذا العصر الرَّقْمِيّ المتسارع تشعَّبت المنصاتُ، وتعدَّدتِ النوافذُ، فأصبح الصوتُ الواحدُ يُسمَع في لحظاتٍ، ويَصِلُ صداهُ إلى الآلاف، ورُبَّما الملايين، وبرزت وجوهٌ وشخصياتٌ لها تأثيرٌ وحضورٌ عبر نوافذها الشخصيَّة وقدراتها التقنية، نالت القبولَ لأسبابٍ متعددةٍ: إخلاص في العطاء، أو حكمة في القول، أو نفع للناس، أو صدق في تمثيل الوطن، أو صدق في تمثيل قِيَم الدِّين وتحصين الوطن، أو روح تبعث على العمل والتفاؤل، هؤلاء هم مَنْ يُطلَق عليهم اليوم (المؤثرون والمشهورون) في مجتمعاتهم، وليس التأثيرُ محصورًا فيمَنْ يَحمِل لقبًا أو شهادة، بل هو في حقيقته كلُّ مَنْ يتابعه الناسُ ويُصغون إليه ويتأثَّرون بكلمته أو سلوكه أو فكرته أو حتى طريقته في الحياة.
والمكانة التي يصل إليها المؤثرُ نعمةٌ، ومِنَ النِّعَم ما يعلو شأنُه إذا قُرِنَ بالمسؤولية، وحُسْنُ هذه النعمة أن يستشعر أنَّها أمانةٌ، وأَنْ يُقدِّر ما تحمله من تَبِعاتٍ دينيةٍ وأخلاقيةٍ ووطنيةٍ، فليس التأثيرُ وجاهةً، بل تكليفٌ خفيٌّ، يُقاس بعمق الأثر النافع لا بعدد المتابعينَ؛ فالمؤمنُ الحقُّ يَعلمُ أنَّ الأثرَ الصادقَ هو ما يُصلِح ولا يُفسِد، ويُوحِّد ولا يُفرِّق، وما أجملَ أن يُدرِك صاحبُ التأثير أنَّ ما بين يديه قد يكون من أثقلِ ما يُوضَع في ميزانه، إِنْ نوى به نفعَ الناس، وتخفيف آلامَهم، وبثَّ الأملَ فيهم، وربطَهم بربهم، ونبَّههم إلى ذواتهم، وشحذَ هممَهم للتنمية، وإنارةَ عقولِهم بالعِلْم، وإيقاظَ قلوبِهم بنورِ الإيمانِ، فَكَمْ من كلمةِ صدقٍ أحيَتْ قلبًا خامدًا، وكم من موقفٍ أخلاقيٍّ أصلَح بيتا مضطربًا، وكم من مُبادَرةِ خيرٍ رفعَتْ أمةً وأحيَتْ روحَ التعاون في وطنٍ كريمٍ.
فإذا علم أن كلمتَه قد تُغيِّر مجرى حياةٍ، أو أنَّ مقطعًا عابرًا من يومياته قد يُعِيد تشكيلَ سلوكٍ، أو أن تعليقًا عفويًّا قد يُصبح قرارًا في قلبِ متابعٍ، فإنَّه -من وعيِه وصدقِه- يُعِيد النظرَ في كلِّ ما يُنتِج، ويُراجِع نفسَه في كلِّ ما ينشر، ويسأل في كلِّ لحظةٍ: هل ما أقدمه بناءٌ للأمة أم هدمٌ؟ وهل هذا ممَّا أُحِبُّ أن ألقى اللهَ به؟ وليتذكَّرْ أنَّ أثرَه لا يتوقف عند الشاشة، بل يبقى بعدَ رحيلِه شاهدًا له أو عليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أحدَكم لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ رضوانِ اللهِ ما يظنُّ أَنْ تَبلُغَ ما بَلَغَتْ، فيكتب اللهُ له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنَّ أحدَكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تَبلُغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه"(أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه).
وكم من مؤثِّرٍ شعَر أو لم يشعر، بنَى بسلوكه قبلَ كلماته! كم من مشهدٍ بسيطٍ أحيَا في قلبِ شابٍّ روحًا كانت على وشك الانطفاء! وكم من امرأةٍ تابعَتْ صفحةً صادقةً فاستقامَتْ بها خطواتٌ! وتهذَّب بها بيتٌ، وانصلح بها حالُ زوجٍ! وتهذَّب بها ابن! وهكذا يكون التأثيرُ رسالةَ حياةٍ لا تُقاس بالأضواء.
بل بما تُحدِثه من خيرٍ في الناس والأوطان، لقد أصبح المؤثِّرُ شريكًا في تربية النفوس، فَأَحْرَى به أن يكون على قدرِ هذه الشراكةِ، فيزرعَ القِيَمَ، ويُنيرَ الطريقَ، ويُشجِّع على العمل النافع، ويغرس في النفوس حبَّ البناء، وروحَ الأُلفة ونُبلَ الانتماء، ولَيَكُنْ لخطابِه أثرٌ في صناعة الإنسان الصالح الذي يعمِّر الأرضَ بالإيمان والعمل.
هناك مَنْ حمَل هذه الرسالةَ، ومَنْ جعَل مِنْ حضورِه إشراقةَ حياةٍ، ومن محتواه سبيلَ هدايةٍ، أولئكَ هُمْ مَنْ يَكتُب اللهُ لهم القَبولَ، ويبقى ذكرُهم حيًّا في القلوب، فكيف إذا صاحبَه ثناءُ الناس عليهم؟ قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مَرْيَمَ:96].
نعم، في ساحتِنا الإعلاميَّة اليومَ فئةٌ مبارَكةٌ اتخذت من منصَّاتها منبرًا تفيضُ رسالتُها بالخير في مجالاتٍ؛ منها: الدِّينُ، والتربيةُ، والأخلاقُ، والصحةُ، والهُويَّةُ، والانتماءُ، والأمنُ، تَحمِل في محتواها روحَ الرحمةِ، وتستشعِر مسؤوليتَها في بناءِ جيلٍ متوازنٍ يحبُّ دينَه وأمَّتَه ووطنَه، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فُصِّلَتْ:33].
والجديرُ بالذِّكْر أنَّ المتابِعَ شريكٌ في صناعة التأثير، فليتَ شعورَ المسؤوليَّة يمتدُّ من المؤثِّر إلى المتابِع، فيُقدِّم للناس مَنْ يُسهِم في خدمةِ أمَّتِه، ويشدُّ مِنْ أزرِ مَن يغرس القِيَم، ويُحيي في النفوس معانيَ العمل الجادِّ والمواطَنة الصالحة، ويُسهِم في رفع الصوت الذي يُضيء العقولَ، لا الذي يُشتِّت القلوبَ، ويوسِّع أثرَ مَنْ يُعلِّم ويُرشِد، لا مَن يُلهي ويُشوِّش. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دلَّ على خيرٍ فَلَهُ مثلُ أجرِ فاعله"(أخرجه مسلم).
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العظيمِ الحليمِ الواسعِ الفضلِ، خالقِ الخلقِ على علمٍ وحكمةٍ وتقديرٍ قويمٍ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ الكريمُ العليمُ، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الهادي الحكيمُ، صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه ما أشرقَتْ شمسٌ بيومٍ كريمٍ، وما تنفَّس صبحٌ عظيمٌ.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي جِماعُ الخيرِ كلِّه.
التأثيرُ أمانة، ومَنْ أنعَم اللهُ عليه بالقَبول بين الناس، فليجعل من حضورِه نورا يُهتدى به؛ فالأُمَّةُ اليومَ بحاجةٍ إلى القدوات الصالحة التي تزرع التفاؤلَ، وتَغرِس الثقةَ، وتُحيي في الناس حبَّ العمل والعطاء.
إنَّ المسؤوليةَ مشترَكةٌ بين الجميع، وإنَّ مِنْ حُسن الوفاء للدِّين، والصدق مع النفس، أن نُسهِم جميعًا في نشر ما يُعين على الهداية، ويُقرِّب من الطاعة، ويُحيي القِيَم، فكلُّ كلمةٍ صادقة، وكلُّ عملٍ نافع، وكلُّ سلوكٍ مستقيمٍ، هو لَبِنةٌ في نشر الإسلام، وتحصين الأمَّة، وبناءِ جيلٍ صالحٍ في وطنٍ مؤمنٍ قويٍّ متماسكٍ.
فطُوبى لكلِّ مؤثِّرٍ صَدَقَ، ولكلِّ متابعٍ رَشَدَ، ولكلِّ كلمةٍ أَصلَحَتْ، ولكلِّ منصَّةٍ أنارَتْ، وما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى. قال الله -تعالى-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[التَّوْبَةِ:105].
وصلُّوا على مَنْ جعَلَه اللهُ منارةَ خيرٍ ومشرقَ هدايةٍ ونورٍ، عددَ ما لَهَجَ بذِكرِه الذاكرون وغفَل عن حبِّه الغافلون، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، الرحمةِ المُهدى، والنعمةِ المُسداة، عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ السلام، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحبِ الكرام، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأصلِح أحوالَ المسلمين، واجمع كلمتَهم على الحقِّ والهدى، واكفِهم شرَّ أعدائهم، وادفع عنهم الفتنَ ما ظهَر منها وما بطَن، اللهمَّ فرِّج همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، ونفِّس كربَ المكروبينَ.
واقْضِ الدَّيْنَ عنِ المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحمْ موتانا وموتى المسلمين.
اللهمَّ صِلِ المُستضعَفينَ في كل مكان، وآمِنْ روعاتِهم، واحفظْ دماءَهم، ورُدَّ عنهم كيدَ المعتدينَ.
اللهمَّ إنَّا نسألكَ من الخير كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمْنا منه وما لم نعلم.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجَاءةِ نقمتك، وجميع سخطك.
اللهمَّ وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحبُّ وترضى، وَفِّقْه لهُداك، واجعلْ عملَه في رضاك، ووفِّقْ وليَّ عهده لكل خيرٍ يا ربَّ العالمين، واحفظْ هذا الوطنَ آمنًا مطمئنًّا، تُظلُّه السَّكِينة، ويُبارَك فيه الإخاء، ويجتمعُ أهلُه على الكلمةِ الطيبةِ، والعملِ الصالحِ، والنيةِ الخالصةِ، واحفظْ جميعَ أوطانِ المسلمين، وعُمَّ بالخيرِ والأمنِ أرضها وسماءها يا ربَّ العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ:201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ:23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ:90]، فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزِدْكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
                            
                            
            
            
            
            
                                
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم