سورة الكهف: عبر وعظات

صالح بن عبد الله بن حميد

2025-10-17 - 1447/04/25 2025-10-18 - 1447/04/26
عناصر الخطبة
1/لطف الله الخفي ورحمته بعباده المتقين 2/عظات وعبر من قصة أهل الكهف 3/وصايا لنيل بركات من صورة الكهف

اقتباس

إن هذه القصةَ العظيمةَ تَغرِسُ في فؤادِ المؤمنِ -وبخاصّةٍ في أوقاتِ الأزماتِ والمضايقِ- أنَّ العبدَ ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بربّه، وأنَّ التوفيقَ هِبَةٌ من اللهِ ومنةٌ، والعبدُ في إيمانهِ وعمَلهِ الصالحِ له مقامان: مقامُ عملٍ وكسبٍ، ومقامُ هِبةٍ من اللهِ وتوفيقٍ...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله، لا مانِعَ لما وَهَب، ولا واهِبَ لما سَلَب، أحمَدُه -سبحانه-، طاعتُه أفضلُ مكتسَب، وأشكرُه على جَزيلِ آلائِه وعطاياه، وكلُّ خيرٍ منه مُرتقَب.

 

وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المنتخَبُ من أشرفِ نسبٍ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وأصحابِه الذينَ حازوا أعلى الرُّتَب، والتابعينَ ومَنِ اتَّبَعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعدُ: فأُوصيكم -أيُّها الناسُ- ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا اللهَ -رحمكم الله-، وتأمَّلوا في عبدٍ من عبادِ اللهِ موفَّقٍ يعيشُ في خيرٍ لم يَسألْه، وينجو من شرٍّ لم يتَّقِه، وقد كُتِبَ له ذلك بعد توفيقِ اللهِ بسببِ دعاءٍ من عبدٍ صالحٍ لم يعرِفْه، وإغاثةِ ملهوفٍ لم يذكُرْه، وتفريجِ كُربةٍ لأخٍ لم يعلَمْه، يقترنُ بذلك خبيئةٌ من عملٍ صالحٍ لم يُظهِرْه؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ:97].

 

أيُّها المسلمون: قصَّةٌ عظيمةٌ عجيبةٌ مبارَكةٌ في كتابِ اللهِ، من قصصِ أهلِ الإيمانِ والتوحيدِ في زمنِ الغُربة، أُولو عزمٍ من الرجالِ، فرُّوا بدينِهم مِنَ الفتنِ، فأنجاهم اللهُ، وهيَّأَ لهم أسبابَ الحفظِ والعِزّةِ والكرامةِ، أَوَوْا إلى ربِّهم فآواهُم، وكتبَ لهم الرفعةَ وحُسنَ العاقبةِ، ولسانَ الذِّكْر في الدنيا والآخرةِ.

 

إنَّها قصَّةٌ عجيبةٌ، تنتظمُ دُروسًا وعِبَرًا تستدعي التوقُّفَ عندَها وتأملها؛ إنَّها قصَّةُ أصحابِ الكهفِ والرّقيمِ.

 

معاشرَ المسلمين: ولئن كانت قصَّةُ أصحابِ الكهفِ والرّقيمِ عجيبةً، فإنَّ هناك ما هو أعجبُ منها؛ وهي آياتُ اللهِ في الآفاقِ وفي الأنفُسِ: خلقُ السماواتِ والأرضِ، واختلافُ الليلِ والنهارِ، والآياتُ في الجبالِ وفي البحارِ، ناهيكُم بعالَمِ الغيبِ وما فيه من الأسرارِ.

 

يقولُ الحافظُ الإمام ابنُ كثيرٍ -رحمه الله- في تفسيرِه: "ليس أمرُهم عجبًا في قدرتِنا وسلطانِنا، فإنَّ خلقَ السماواتِ والأرضِ، واختلافَ الليلِ والنهارِ، وتسخيرَ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ وغيرَ ذلك من الآياتِ العظيمةِ الدالَّةِ على قدرةِ اللهِ -تعالى-، وأنَّه على ما يشاءُ قديرٌ، ولا يُعجِزُه شيءٌ، أعجبُ من أخبارِ أصحابِ الكهفِ".

 

وقالَ محمدُ بنُ إسحاق: "ما أظهرتُ من الحُجَجِ على العبادِ أعجبُ من شأنِ أصحابِ الكهفِ والرّقيمِ". وقالَ مجاهدٌ: "قد كانَ من آياتِنا ما هو أعجبُ من ذلك".

 

وقد تعجَّبَتْ بنو إسرائيلَ من خلقِ عيسى -عليه السلام-، وغفلوا عن خلقِ آدمَ أبيهم -عليه السلام-؛ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)[الْكَهْفِ:9].

 

من أجلِ هذا -عبادَ اللهِ- فإنَّ كثرةَ الاهتمامِ بالغرائبِ والعجائبِ والنَّوادرِ، والانصرافَ عن تأمُّلِ آياتِ اللهِ في عظيمِ مخلوقاتِه، وفيما بينَ يديه، ليسَ من شأنِ أُولي الألبابِ.

 

معاشرَ المسلمينَ: ومن عِبَرِ هذه السورةِ الكريمةِ بقصصِها وأحداثِها عامّةً، وقصَّةِ أصحابِ الكهفِ والرّقيمِ خاصّةً، ما يتجلّى من العَلاقةِ الكبرى بين الإيمانِ والتوكُّلِ، وبين الأخذِ بالأسبابِ وبين الإيمانِ بالغيبِ، والأخذ بالظواهرِ والمادّيات.

 

قصَّةُ أصحابِ الكهفِ والرّقيمِ آياتٌ من آياتِ الله، وجمعٌ بينَ الأسباب والتوكل، ترتيباتٌ محكمةٌ؛ من كهفٍ وسِعةٍ بداخله، وشمسٍ تميلُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ، وأعينٍ مفتوحةٍ، ومهابةٍ على الوجوهِ، ونصرٍ بالرعبِ، وتقليبٍ للأبدانِ، والكلب الباسط ذراعَيْه بالوصيدِ، فسبحانَ اللهِ العظيمِ من حكيمٍ عليمٍ؛ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)[الْكَهْفِ:17-18].

 

أيُّها الإخوةُ: ومن الدروسِ في هذه القصّةِ المباركةِ ما تجلَّى فيه الفارقُ بين الإيمانِ الصحيحِ باللهِ فاطرِ الكونِ ومبدِعِه، والإيمانِ بالغيبِ والبعثِ والنشورِ، وبين الاعتمادِ على المادَّياتِ المجرَّدةِ والانصرافِ إلى اللذَّةِ العاجلةِ والمنفعةِ المادَّيةِ العابرةِ، بعيدًا عن حقائقِ الإيمانِ وأنوارِ النبوّةِ، وفَقْدِ التوازنِ بين العلمِ والعقلِ والأخلاقِ وضوابطِ الاستقامةِ؛ (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)[الْكَهْفِ:21].

 

المادِّيُّونَ لا يلتفتونَ إلَّا إلى الحسِّ والمشاهَدةِ والتجربةِ والمنفعةِ العاجلةِ، والتعلّقِ بالحياةِ الدنيا وزينتِها، وتعظيمِها، والتنقُّصِ والازدراءِ ممَّا يُخالفُها أو يُعارضُها في القِيَمِ والأخلاقِ والمُثُلِ؛ تنافُسٌ وتنازُعٌ على المادّياتِ البحتةِ، وغلوٌّ في الاعتمادِ على الأسبابِ؛ (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الْكَهْفِ:28-29].

 

حقَّقَ اللهُ لهم بإيمانِهم وصدقِهم زيادةَ الهُدى والرّبطَ على القلوبِ، وأمدَّهم بقوَّةٍ من عندِه أورثتْ سكينةً في قلوبِهم، ويقينًا ورضًا في نفوسِهم، وهذا هو زادُ مَنْ فرَّ إلى اللهِ وجاهَدَ في سبيلِه؛ فمن فرَّ بدينِه سلَّمَه اللهُ، ومن رامَ العافيةَ عافاه اللهُ، ومَنْ أوى إلى اللهِ آواه اللهُ، ومَنْ تحمَّل المشقَّةَ في سبيلِ اللهِ أعانَه اللهُ، وكانت عاقبةُ أمرِه العزّةَ والرّفعةَ في الدنيا والآخرةِ؛ (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الْكَهْفِ:17].

 

ومن أسبابِ تحصيلِ الهدايةِ -عبادَ الله- الدعاءُ والتذلُّلُ واللجوءُ إلى اللهِ، والحرصُ على العملِ الصالحِ المقرونِ بالإخلاصِ ومجالسةُ الصالحينَ؛ (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ:10].

 

معاشرَ المسلمينَ: لقد كان التركيزُ على التوحيدِ وإثباتِه وتثبيتِه، وبيانِ ما يُناقضُه من الشِّركِ ووسائلِه، جليًّا في هذه القِصَّةِ المباركةِ؛ فالثباتُ على الإيمانِ، والاستقامةُ على الهدى، منَّةٌ من اللهِ وتوفيقٌ؛ (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[الْكَهْفِ:14]، فمَنِ التزمَ توحيدَ اللهِ، وأخلَصَ في عبادتِه، ونبذَ الشِّركَ والبدعَ والمعاصيَ، حفِظَه اللهُ، وعصَمَه، وثبَّتَه؛ (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)[الْكَهْفِ:15]، وفي التحذيرِ من الشركِ ووسائلِه، جاء قولُه -سبحانه-: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)[الْكَهْفِ:21]؛ فالبناءُ على قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، واتِّخاذُها مساجدَ، ليس من الدِّينِ ولا من سُنَنِ المرسَلين، بل هو شِركٌ أو ذريعةٌ إلى الشركِ؛ لأنَّ البناءَ عليها، والعكوفَ عندها، سببٌ في الغلوِّ بأصحابِها، وصرفِ أنواعِ العبادةِ لهم من الدُّعاءِ والاستغاثةِ والطَّوافِ والذَّبحِ والخوفِ والرَّجاءِ، وأعيادِ الجاهليَّةِ وغيرها من أنواعِ العبادةِ ووسائلِها، وهذا كلُّه محضُ حقِّ اللهِ وحدَه لا شريكَ له.

 

معاشرَ المسلمينَ: ومن دروسِ هؤلاء الفتية المباركينَ أنَّهم كانوا على قلبٍ واحدٍ، تعاونٍ وتآلُفٍ، تلاشتْ فيه مظاهرُ الفرديَّةِ، وعوارضُ الخلافِ والشِّقاق، جاءتِ الآياتُ تُبيِّنُ ذلك وتُبرِزُه بأسلوبٍ عجيبٍ: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ)، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)، فلم يَختلفوا ولم يَتنازعوا، قلوبٌ تصافَتْ، ونفوسٌ تسامَتْ، الغايةُ واضحةٌ، والمنهجُ مستقيمٌ، والجهودُ مُوجَّهَةٌ لابتغاءِ الحقِّ، ومَن صاحَبَ الأخيارَ نالَ مِن خيرِهم، ومَن رافقَ الأشرارَ نالَهُم من شرِّهم، ومَن رافَق المتذمِّرينَ واللوَّامين تأثَّرَ بهم، ومَن عاشَ مع المتفائلينَ غمرته سعادتَهم؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[الْكَهْفِ:28]، فصاروا جماعةً واحدةً، ويدًا واحدةً، وإخوانَ صدقٍ، وتوافَقوا على كلمةِ السَّواء.

 

أيُّها الإخوةُ: ويأتي درسٌ عجيبٌ، وتوجيهٌ عظيمٌ، يتعلَّقُ بالاشتغالِ بما لا طائلَ تحتَه، ممَّا هو ليس من مُهِمّاتِ الدِّينِ ولا من مصالحِ الدُّنيا، لقد قالَ هؤلاءِ الفتيةُ الصالحونَ حينَ تساءلوا عن مدةِ نومِهم: (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)[الْكَهْفِ:19]، وفي مقامٍ آخرَ من الدرسِ نفسِه جاء التوجيهُ نفسُه حينَ جرى الاختلافُ في عددِ أصحابِ الكهفِ، فكان التوجيهُ الربّاني: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[الْكَهْفِ:22].

 

لا يكونُ الخوضُ في مثلِ هذه المسائلِ، ولا يكونُ الجدالُ والحوارُ، إلّا بدليلٍ ظاهرٍ مبنيٍّ على العلمِ، لا على الجهلِ، وعلى اليقينِ لا على الشكِّ، وعلى الجزمِ لا على التخرُّص؛ ممَّا تَضِيعُ به الأوقاتُ، وتفسُدُ به القلوب؛ (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)[الْكَهْفِ:22]، فلا يكونُ الاشتغالُ إلّا بالمُهِمِّ من الأمورِ المفيدةِ من العلومِ والأعمال.

 

كما أنَّه -سبحانه- لم يذكرْ لباسَهم، ولا طعامَهم، ولا شرابَهم، ولا هيئاتِهم، ولا صفاتِهم، ولا مالَهم، ولا متاعَهم، ممَّا لا ثمرةَ في الاشتغالِ به.

 

أيُّها المسلمون: وفي القصّةِ دروسٌ كثيرةٌ من الحرصِ على تحرّي الحلالِ الطيّبِ النافعِ؛ (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)[الْكَهْفِ:19]، والاستعانة على قضاءِ الحوائجِ بالكِتمانِ والتلطّفِ؛ (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)[الْكَهْفِ:19]، والنهيِ عن الرُّجوعِ إلى غيرِ أهلِ العلمِ والاختصاص أو سؤال من لا يصلح للفتوى؛ (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[الْكَهْفِ:22].

 

وفي مقابلِ ذلك فإنَّ البحثَ والعلمَ والمدارسةَ أمرٌ مطلوبٌ؛ (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ)[الْكَهْفِ:19].

 

وبعدُ -رحمكم الله-: فأصحابُ الكهفِ والرَّقيمِ فِتيةٌ خلَّدَ اللهُ ذِكرَهم بإيمانِهم وصدقِهم وصلاحِهم، بعدَ هداية الله لهم، استسلَموا لأمرِه، هم ومعهم نماذجُ صالحةٌ من عبادِ اللهِ الذينَ لم تَفتُرْ عزائمُهم، ممن لم يذكر زمانهم ولا مكانهم؛ كالعَبدِ الصالحِ الذي تبِعَه موسى -عليه السلام-، والعَبدِ الصالحِ أبِي الغُلامين، وذي القَرنَين الذي أوتي من كلِّ شيءٍ سببًا؛ توحيدٌ خالصٌ، وعملٌ صالحٌ، وإنجازاتٌ وأعمال لا تنتمي إلى زينة الحياةِ الدُّنيا وزخارفِها، خلودٌ كريمٌ لا يعرفُه المتعلّقونَ بزخارفِ الشهرةِ والانتشار.

 

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الْكَهْفِ:13].

 

نفعني اللهُ وإيّاكم بكتابِه العزيزِ، وبسُنّةِ نبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ وهو بالحمدِ جديرٌ، -تعالى- وتقدَّسَ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، أحمدُه -سبحانه- أعطى الكثيرَ، وقَبِلَ اليسيرَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تنزَّه عن الشبيهِ والنظيرِ، ليس كمثلِه شيءٌ، وهو السميعُ البصيرُ.

 

وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، البشيرُ النذيرُ، والسِّراجُ المنيرُ صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وأصحابِه أولي الجِدِّ والجودِ والتشميرِ، والمسارعينَ إلى الخيراتِ من غيرِ توانٍ ولا تقصيرٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم التسليمَ المزيدَ الكثيرَ.

 

أما بعدُ، معاشرَ المسلمينَ: إن هذه القصةَ العظيمةَ تَغرِسُ في فؤادِ المؤمنِ -وبخاصّةٍ في أوقاتِ الأزماتِ والمضايقِ- أنَّ العبدَ ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بربّه، وأنَّ التوفيقَ هِبَةٌ من اللهِ ومنةٌ، والعبدُ في إيمانهِ وعمَلهِ الصالحِ له مقامان: مقامُ عملٍ وكسبٍ، ومقامُ هِبةٍ من اللهِ وتوفيقٍ؛ فمقامُ العملِ والكسبِ ما يقومُ به من أفعالٍ وأحوالٍ؛ ففي قولهِ -سبحانه-: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)[الْكَهْفِ:13]، هذا مقامُ العملِ والكسبِ، وقوله: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الْكَهْفِ:13]، هذا حالُ الهِبةِ والتوفيقِ؛ فَمَنْ آمنَ باللهِ وتوجَّهَ إليهِ هدَى اللهُ قلبَه، وأقبلَ عليه، كما قالَ -سبحانه-: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التَّغَابُنِ:11]؛ ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)[يُونُسَ:9].

 

ومثلُ ذلك قولُه -سبحانه- في هؤلاء الفتية المباركين: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الْكَهْفِ:14]، فقيامُهم وقولُهم: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)مقامُ عملٍ وكسبٍ، والربطُ على القلوبِ حالةُ هِبةٍ وتوفيقٍ.

 

وقوله -سبحانه-: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)[الْكَهْفِ:16]: فالإيواءُ إلى الكهفِ عملٌ، ونشرُ الرحمةِ من ربِّ الكريمِ توفيقٌ منه.

 

ألَا فَاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واعلموا أنَّ مَنْ حفظَ عشرَ آياتٍ من أول سورةِ الكهفِ عُصِمَ من الدَّجَّالِ، (رواه مسلم وأبو داود والنسائي)، من حديث أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى النسائي عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهفِ فإنه عصمة له من الدجال"، ومن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين. (رواه الحاكم والبيهقي وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني).

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلًا عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ نبينا محمدٍ، وعلى آله وأزواجه وذريتِه، وارضَ عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدينَ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنَّا معهم بعفوكَ وجودِكَ وإحسانِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، وانصُرْ عبادَك المؤمنينَ، واخزِل الطغاةَ والملاحدة وسائر أعداءِ الملة والدين.

 

اللهم انصر دينَك، كتابَك، وسنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعبادَك الصالحينَ.

 

اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم أَيِّد بالحقِّ والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرِنا خادمَ الحرمينِ الشريفين، ووفقه لما تُحبُّ وتَرضى، وخذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وارزُقهُ البطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخيرِ وتُعينُه عليه، وأعز به دينك وأعل به كلمتك، واجعَلْه نصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، واجمَعْ به كلمةَ المسلمينَ على الحقِّ والهدى، يا رب العالمين، اللهم وفقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانه للحقِّ والهدى، وكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم وفِّقْ ولاةَ أمورِ المسلمينَ للعملِ بكتابِك، وبسُنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، واجعل لهم رحمةً لرعاياهم.

 

اللهمَّ انصر إخوانَنا في فلسطينَ، اللهمَّ كُنْ لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعِينًا وظهيرًا، اللهم تولَّ أمرَهم، واجمَعْ شملَهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهمَّ إنهم ضعفاءُ فَقَوِّهم، اللهم قوِّ عزائمَهم وانصرهم نصْرًا مؤزَّرًا.

 

اللهم مُنزِلَ الكتابِ ومجري السَّحابِ، وهازمَ الأحزابِ، اهزمِ اليهودَ الغاصبينَ الظالمينَ، اللهمَّ إنهم قد طغَوا وبغَوا وأفسدوا؛ اللهمَّ ردَّ كيدَهم في نحورِهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظنا من شرِّ الأشرارِ وكيدِ الفجارِ، ومن شرِّ طوارقِ الليلِ والنهارِ.

 

اللهم وفّقنا للتوبةِ والإنابة، وافتحْ لنا أبوابَ القبولِ والإجابة، اللهم تقبَّلْ طاعاتِنا ودعاءَنا، أصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنّا سيّئاتِنا، وتُبْ علينا، واغفِر لنا وارحَمْنا، إنك أنتَ الغفورُ الرحيم.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ:201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمه يزيدكم، اذكُروا اللهَ أكبر، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ:45].

المرفقات

سورة الكهف عبر وعظات.doc

سورة الكهف عبر وعظات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات