سورة نوح

د عبدالعزيز التويجري

2025-11-14 - 1447/05/23 2025-12-04 - 1447/06/13
عناصر الخطبة
1/من مميزات القصص القرآني 2/سورة نوح تفتح أبوابًا من التأمل 3/تأملات في قصة نوح مع قومه من خلال هذه السورة 4/من دروس وعبر قصة نوح

اقتباس

ليس نداء لقوم نوح فحسب، بل نداء لكل أمةٍ غفلت عن سنن الله في الحياة، فكلما تراكمت الغفلة بعث الله نذيرًا يقول: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، وكلُّ داعيةٍ صادق فهو نوحٌ في زمنه، وكلُّ مجتمعٍ يُعرض عن صوت الحق هو قوم نوح، وإن قصرت أعمارهم واختلفت حياتهم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، لهُ الشكرُ بالغُدُوِّ والآصالِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، شديدُ المحالِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ وسلّم وبارك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، وسلّم تسليماً مزيداً.

 

أمَّا بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

القرآن الكريم بآياته وحججه وبلاغته يختصر الملاحمَ في آية، ويُقيمُ البرهانَ في جملة، ويزرع في النفسِ يقينًا لا تهزّه العواصف.

 

القصص القرآنيّ مدرسةُ التزكية والتفكّر؛ (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 176]، القصة في القرآن مدرسة الحكمة العملية، تُعلّمك أن الحق لا ينتصر دائمًا بسرعة، وأن الابتلاء ليس نهاية الطريق، وأن الله يُمهل ليُمحّص لا ليغفل؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف: 111].

 

سورة نوح قصيرة في عدد آياتها، واسعة في دلالتها، محدودة في ألفاظها، عميقة في معانيها وسننها.

 

سورة نوح تفتح أبوابًا واسعة من التأمل في طريق الدعوة، وصراع الإيمان مع الجحود، وصبر الداعية حين يطول الطريق وتتعاقب الأعوام دون أن يلين القلب ولا تفتر الهمة، هي سورة تُقرأ في دقائق، لكنها تُعاش في عمرٍ كامل بأحداثه وتقلباته وعاقبة أمره.

 

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[نوح: 1]، ليس نداء لقوم نوح فحسب، بل نداء لكل أمةٍ غفلت عن سنن الله في الحياة، فكلما تراكمت الغفلة بعث الله نذيرًا يقول: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، وكلُّ داعيةٍ صادق فهو نوحٌ في زمنه، وكلُّ مجتمعٍ يُعرض عن صوت الحق هو قوم نوح، وإن قصرت أعمارهم واختلفت حياتهم.

 

وعد الله لمن استجاب دعوة التوحيد واذعن للإيمان وتواضع للحق بأنه: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[نوح: 4]، فالذنوب تغفر بالتوحيد الخالص، وتتحات خطاياه بالصبر والبلاء، فلا يُترك المؤمن حتى يُمحَّص قلبه تمامًا.

 

(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)[نوح: 5]، دلالة عميقة بأن الداعية الصابر لا يمل ولا يتراجع، لا يوقفه صد ولا يثنيه جفاء، عطاء متصل لا يتقيد بزمنٍ ولا حال.

 

لقد ضرب نبي الله نوح -عليه السلام- أعلى مقامات الصبر في طول الدعوة، فدعاهم لَيْلًا وَنَهَارًا ألف سنة إلا خمسين عاما، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)[نوح: 6]، وقال قوم محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)[فصلت: 5]، وكان كفار قريش يتواصون إذا قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن أن يصفقوا ويصيحوا حتى لا يُسمع صوته؛ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26].

 

وليتعزَّ أهلُ الحق بسير الرسل، وقص القرآن ما يلقونه من سخريةٍ، وتشويه للحق، وأن التشويش على الدين سنةٌ قديمة؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الأنعام: 112].

 

نداء الأنبياء نداء رحمة وترغيب وشفقة، فنوح -عليه السلام- لا يلوح بالعقاب مع شدة ما لاقاه من العناد والإيذاء، بل يفتح باب الرجاء وما تحبه النفوس؛ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10 - 12].

 

حين يعصي الإنسان ربه تمسك السماء، وتغبر الأرض، وتضيق الحياة، وحين يستغفر تمطر السماء، وتخضَّر الأرض، ويعم الرخاء، ونادى هود قومه فقال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].

 

الاستغفار يفتح أبواب الرزق والنعمة التي يحجبها الذنب، تأخر المطر على عهد عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فخرج يَسْتَسْقِي، فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالُوا: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ"، فَقَالَ: "لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ"، ثُمَّ قَرَأَ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)[نوح: 10 - 11]، وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ هُودٍ حَتَّى بَلَغَ: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هود: 52].

 

الاستغفار هو الوصل بين الأرض والسماء، فإذا إذا ضاق بك الهمّ فاستغفر الله؛ فالمطر يبدأ من القلب، إذا قَسا قلبك فاستغفر الله؛ فالغفران يمسح غبار الروح.

 

وإذا احسست بقلة البركة فارجع إلى الله، واستغفر الله و"مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ؛ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ".

 

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[هود: 90]، أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين.

 

أما بعد: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[نوح: 26]، فكما أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهرها من الشر والشرك، فكذا لا تصلح الأرض إلا تطهيرها من الكافرين الظالمين.

 

وفي ختامها: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[نوح: 28]، فمع القيام بالدعوة عمرا طويلا وجهدا مضنيا وصبرا عظيما إلا أنه دعا ربه بأن يغفر له، وفي صحيح مسلم: "لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ"، ودعاؤه لوالديه قيل: إنهما كانا مسلمين، وقيل: قصد آدم وحواء، ودعاؤه للمؤمنين هو بر بهم، وشعوره بآصرة الولاء للمؤمنين، والإحساس بالجسد الواحد.

 

سورة نوح هي سيرة الدعوة في كل زمان، فيها رحمة الرسالة في بدايتها، وصبر الأنبياء في وسطها، وعدالة الله في ختامها.

 

هي سورة تُعلّم الداعية كيف يصبر؟ والعاقل كيف يعتبر؟ والمجتمع كيف يفهم سنّة الله في الأمم؟ إن الإعراض يُورِث الغرق، وإن الإيمان هو النجاة والفوز الذي ينجو به الإنسان من طوفان الغواية، فمن لم يعمر حياته بالإيمان، غرقَ في بحر هواه، وإن لم ينزل عليه الطوفان.

 

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.

المرفقات

سورة نوح.doc

سورة نوح.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات