سيرة النبي .. منهج حياة

الشيخ عروة عكرمة صبري

2025-10-03 - 1447/04/11 2025-10-05 - 1447/04/13
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/نعمة الله العظمى بإرسال خير البشر 2/قطوف من سيرة المصطفى في العدل والحلم والرأفة 3/الحث على المحافظة على أمانة المسجد الأقصى المبارك 4/في الاقتداء بسيرة النبي سعادة الدارين

اقتباس

في هذا الوقتِ الذي نعيشُ فيه، نحنُ بحاجةٍ إلى أن نُوجِّهَ أبناءَنا وبناتِنا إلى الاقتداءِ بالرسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا يكونُ أوَّلًا بالعلمِ، وبالتعرُّفِ على سيرتِه وأحوالِه وأخلاقِه، ثم يكونُ الاقتداءُ الواعي الذي يَقتَرِنُ بنيَّةِ التعبُّدِ والثوابِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ الأمينِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

 

الحمدُ للهِ على نِعمةِ الإسلامِ، دين الرحمةِ والعدالةِ والحقِّ والصدقِ، الحمدُ للهِ، ثم الحمدُ للهِ، أرسلَ إلينا خيرَ الأنامِ محمدًا -صلى اللهُ عليه وسلم- رحمةً للعالمين.

 

وممَّا زادَني شرفًا وتِيهًا *** وكِدتُ بأخمَصي أطأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تحتَ قولِكَ يا عبادِي *** وأن صَيَّرْتَ أحمدَ لي نبيَّا

 

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، له المُلكُ له والحمدُ، يُحيي ويميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، إمامُ المُتَّقينَ وقدوةُ العلماءِ العاملينَ وأُسوةُ الدعاةِ الصادقينَ إلى يومِ الدِّينِ.

 

اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمدٍ عددَ خلقِكَ، ورِضا نفسِكَ، وزِنةَ عرشِكَ، ومِدادَ كلماتِكَ.

 

اللهمَّ وصلِّ على سيِّدِنا محمدٍ في الأوَّلينَ، وصلِّ عليه في الآخرينَ، وصلِّ عليه في الملأِ الأعلى إلى يومِ الدِّينِ، وصلِّ عليه كلَّما ذكرَه الذاكرون، وغفَلَ عن ذكرِه الغافلون؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71].

 

أما بعدُ: فيقولُ اللهُ -سبحانه وتعالى- في مُحكَمِ كتابِه العزيزِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ:21].

 

عبادَ اللهِ: إنَّ من نِعَمِ اللهِ -تعالى- التي أنعَمَ بها على البشريَّةِ بعثةَ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم-؛ فقد بعثَهُ اللهُ برسالةٍ خالدةٍ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، تمتازُ بشُمُولِها لكلِّ جوانبِ الحياةِ، هذه الرسالةُ بما فيها من مبادئَ وقِيَمٍ شكَّلت الأساسَ الذي قامَت عليه الحضارةُ الإسلاميَّةُ، والتي سادتِ العالمَ قرونًا عديدةً؛ حضارةٌ بُنيت على العدلِ والحقِّ والصدقِ، حفِظَتْ للإنسانِ حقوقَه وكرامتَه، فلم تَقُمْ هذه الحضارةُ على مَحْوِ الآخَرينَ واستئصالِهم وإقصائِهم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[الْمَائِدَةِ:8]؛ فالعدلُ مع المُخالِفِ لنا من تقوى اللهِ -سبحانه وتعالى-، فهذا يعني أنَّ العدلَ قيمةٌ أخلاقيَّةٌ مبنيَّةٌ على قناعةٍ قلبيَّةٍ صادقةٍ، لا تقومُ على المُجاملَة، ولا تَكيلُ بمِكيالَينِ، ولا تقومُ على رفعِ الشِّعاراتِ البرَّاقة؛ يَنْكَشِفُ صدقُها في المواقفِ الصعبةِ والجادَّةِ.

 

أيها المسلمون: لقد جاءت دعوةُ الإسلامِ في الوقتِ الذي كانت البشريَّةُ تعيشُ في جاهليَّةٍ مُظلمةٍ، انقلَبَتْ فيهِ الموازينُ وتسلَّطَ القويُّ على الضعيفِ، فجاءت هذه الدعوةُ لتُعيدَ الأمورَ إلى نِصابِها، وتنشرَ قيمَها ومبادئَها في العالمِ أجمعَ، من خلالِ واقعٍ جديدٍ يَتَمثَّلُ فيه هذه القيمَ في الواقعِ العمليِّ المُعاشِ؛ فنبيُّنا الحبيبُ كان قُدوةً عمليَّةً، تُمثِّلُ مبادئَ الإسلامِ وقيمَه في حياتِه اليوميَّةِ؛ فوَصَفَته السيِّدةُ عائشةُ -رضي اللهُ عنها- بقولِها: "كان خُلُقُه القرآنَ".

 

ومَنْ قرأَ سيرتَه -صلى الله عليه وسلم- يجدُ اجتماعَ خِصالِ الخيرِ في أخلاقِه وسلوكِه؛ كان الحبيبُ -صلى الله عليه وسلم- مُتواضعًا، حَمَلَ الدعوةَ مع أصحابِه، وشارَكهم المسؤوليةَ في جميعِ المواقعِ والميادينِ، ولم يتميَّزْ عليهم، بل ساوَى بينَه وبينَهم؛ ففي غزوةِ بدرٍ أرادَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- تسويةَ الصفوفِ كقائدٍ يُسوِّي صفوفَ جيشِه، فمرَّ بسَوادِ بنِ غَزِيَّةَ وقد خرجَ عن الصفِّ، فطُعِنَ في بطنِه بالقَدْح -أي بالرُّمْح- وقال: "استوِ يا سوادُ". فقال: يا رسولَ اللهِ، أوجعتَني أوجعتَني، وقد بعثَك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني. فكشَفَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن بطنِه الشريفِ وقال: "استَقِدْ". قال: فاعتنقَه سوادٌ فقبَّلَ بطنَه. وقال: "ما حملَكَ على هذا؟"، قال: يا رسولَ اللهِ، حَضَرَ ما ترى، فأردتُ أن يكونَ آخِرُ العهدِ بكَ أن يمسَّ جِلْدي جِلْدَك.

 

موقفٌ يدلُّ على تواضعٍ لا نظيرَ له في تاريخِ العَلاقةِ بين الحاكمِ ورعيَّتِه، ويدلُّ أيضًا على المحبَّةِ الصادقةِ التي جمَعَت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- والصحابةَ الكرامَ؛ فمحبَّتُه من الإيمانِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ".

 

أيها المسلمون: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَكَمًا عَدْلًا؛ أقامَ دولةَ الإسلامِ على العدلِ والحُكمِ الرشيدِ، وأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ورفضَ المُحاباةَ والشَّفاعةَ في إقامةِ الحدِّ والعقوبةِ على المُخطِئِ؛ فقال مُنكِرًا على مَن أرادَ الشفاعةَ لامرأةٍ قُرشيَّةٍ قد سرَقَتْ: "أتَشفعُ في حدٍّ مِنْ حدودِ اللهِ؟"، ثم قال: "أيها الناسُ، إنما أهلكَ الذين قبلَكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأَيْمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقَتْ لقطعتُ يدَها".

 

أيُّها المسلمون: علَّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمتَه مِنْ بعدِه كيف يكونُ الصبرُ على المِحَنِ والشدائدِ، وكيف يكونُ الثَّباتُ على الدينِ الحقِّ؛ فقد تعرَّضَ لصُوَرٍ متعدِّدةٍ من الأذى البدنيِّ والمعنويِّ؛ وذلك لِصَدِّه عن دعوتِه، ولكنه صبرَ وثبتَ؛ فكانت المِنحةُ الإلهيَّةُ أن قدَّرَ اللهُ -تعالى- نهايةَ هذا البلاءِ، وبقاءَ دعوةِ الإسلامِ، واشْتِدادَ عودِها، وكانت المِنحةُ في الفترةِ المكيةِ رحلةً قدسيَّةً؛ هي رحلةُ الإسراءِ والمِعراجِ، رحلةُ الإسراءِ إلى بيت المقدسِ، وصلاةٌ في المسجدِ الأقصى المُباركِ، وإمامةُ الأنبياءِ فيه فكانت فتحًا روحيًّا له، ورحلةُ المِعراجِ إلى السماءِ حيث التكريمُ الإلهيُّ.

 

إنَّ المِحَنَ والشدائدَ التي تعرَّضَ لها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه كانت زادَ الروحِ التي تُغذِّي نفوسَهم المؤمنةَ، حيث ترتقي بأخلاقِهم، وتُنمِّي الأملَ في نفوسِهم، وظهرَ ذلك عندما عادَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه بعد سنينَ، عادوا بعدَ سنينَ إلى مكةَ فاتحينَ، عادوا يحملونَ قِيَمَ الإسلامِ العظيمةَ، وشعارُهم: اليوم يوم المرحمةِ، هذا يومٌ يُعظِّمُ اللهُ فيه الكعبةَ، ويومٌ تُكسى فيه الكعبةُ، وخُتِمَ المشهدُ بعدَ التمكينِ يومَ الفتحِ بالعفوِ العامِّ؛ حيث قال لهم -أي لقومِه- حين اجتمعوا في المسجدِ الحرامِ: "ما ترَونَ أني صانعٌ بكم؟"، قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ. قال: "فاذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ".

 

عبادَ اللهِ: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قدوةَ العابدينَ، متوازنًا في عبادتِه؛ جَمَعَ بين العبادةِ والعملِ، وعمارةِ الأرضِ، والسعيِ فيها، والدعوةِ إلى اللهِ -تعالى-؛ فأرشدَنا إلى العبادةِ بمفهومِها الشاملِ.

 

وفي يومٍ سألَ نفرٌ عن عبادةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا أُخبِروا كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وقد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّرَ؟! قال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي الليلَ أبدًا. وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ. وقال آخَرُ: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا. فجاء رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: "أنتمُ الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا -واللهِ- إنِّي لَأخشاكم للهِ، وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطرُ، وأصلِّي وأرقدُ، وأتزوَّجُ النساءَ؛ فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ منِّي".

 

ومع هذا الفهمِ الشموليِّ للعبادةِ، إلَّا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان مُجتهِدًا في صلاتِه وصومِه ودعائِه وقيامِه؛ فقد أطالَ قيامَ ليلِه حتى تفطَّرت قدمَاه، فيُقالُ له في ذلك فيقولُ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟".

 

وكان مُجتهدًا في الصدقةِ جَوَادًا كريمًا؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيُدارسه القرآنَ؛ فلَرسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أجودُ بالخيرِ من الريحِ المُرسلةِ".

 

لقد أرشدَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى جوهرِ العبادةِ وروحِها، وأنَّ هذه العبادةَ هي طريقٌ من طُرُقِ تزكيةِ النفسِ وسُموِّها، وأنَّ على العبدِ المؤمنِ أن يُقدِّمَها لربِّه خالصةً نقيَّةً من الرِّياءِ والسُّمعةِ ومن الشَّكليَّةِ، بل لا بدَّ أن تكونَ مُثمرةً تَنْهى صاحبَها عن الفحشاءِ والمُنكرِ.

 

ومن الأمورِ التي لا بدَّ منها عند أداءِ العبادةِ أو تقديمِ شيءٍ لدينِ اللهِ -تعالى-، أن يكونَ العابدُ على وَجَلٍ من قَبولِ العملِ، وينبغي ألَّا يَغترَّ بعبادتِه وبما يُقدِّمُه لدينِه، وليحذرِ العبدُ من الغرورِ بالعبادةِ والعملِ.

 

انظروا إلى موقفِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعد عودتِه من الطائفِ؛ فقد لَقِيَ من أهلِها ما لَقِيَ من الأذى المادِّيِّ والمعنويِّ، حيث دُمِيَتْ قدمَاه الشريفتانِ، ولحقَه الصبيانُ والسُّفهاءُ يرمونَه بالحجارةِ ويشتمونَه؛ فماذا كان الموقفُ بعد ذلك؟ اعتذرَ الحبيبُ إلى حبيبِه لعدمِ استجابتِهم لدعوتِه، فقال مناجيًا ربَّه: "اللهمَّ إليكَ أشكو ضَعْفَ قُوَّتي، وقِلَّةَ حيلتي، وهواني على الناسِ، يا أرحمَ الراحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ، وأنتَ ربِّي، إلى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمُني، أم إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي"، فماذا نقولُ نحنُ المقصِّرينَ؟! اللهمَّ إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي، "ولكنَّ عافيتَّك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، من أن تُنزِلَ بي غضبَكَ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخَطُكَ، لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بك"؛ فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يتذلَّلُ إلى ربِّه معتذرًا، ويدعوه ألَّا يُنزِلَ عليه غضبَه، وهو في قمَّةِ عطائِه وتضحياتِه؛ فلا مجالَ للغرورِ بالعملِ، وليَكُنْ هدفُنا رِضى اللهِ -تعالى-، وإخلاصَ النيَّةِ له؛ فإنْ قُبِلنا فذلك هو الفوزُ العظيمُ.

 

عبادَ اللهِ: لقد عُرِفَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالصادقِ الأمينِ؛ فحمَلَ الأماناتِ وأدَّاها على أكملِ وجهٍ، كما أنَّه حمَّلَنا أماناتٍ كثيرةً، وأمرَنا بالمحافظةِ عليها؛ فَمِنْ أهمِّ هذه الأماناتِ هذا الدينُ العظيمُ الذي يجبُ أن يحيَا في نفوسِنا وقلوبِنا، وينعكسَ سلوكًا في واقعِنا، هذا الدينُ حملَه الصحابةُ الأخيارُ، ومِنْ ثمَّ التابعونَ، ومَن تبعَهم من العلماءِ العاملينَ جيلًا بعد جيلٍ؛ فهذا هو ميراثُ النبوَّةِ الذي يحمِلُه العلماءُ أوَّلًا، ومِنْ بعدِهم سائرُ الأمَّةِ معهم.

 

ومن الأماناتِ التي أُمرْنا بحفظِها مقدَّساتُنا ومساجدُنا، ومنها المسجدُ الأقصى المباركُ، فهو أمانةُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فنحنُ مُطالَبونَ بالحفاظِ عليه، وعمارتِه، وشدِّ الرحالِ إليه في كلِّ وقتٍ وحينٍ للصلاةِ والتعبُّدِ، وإحياءِ دروسِ العلمِ، وأَنْ نُعظِّمَ الشعائرَ فيه.

 

عبادَ اللهِ: هذا هو نبيُّنا، حبيبُ قلوبِنا؛ فاقتَدُوا به، وافخَرُوا، وتدارَسُوا سيرتَه، واعلموا أنَّ النجاةَ باتباعِ هديِه، والخسرانَ في هجرِ سُنَّتِه.

 

نفعَني اللهُ وإيَّاكم بالقرآنِ العظيمِ، وبما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، واستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ الأمينِ، وعلى آله وصحبِه أجمعينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ والتابعينَ، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.

 

وبعدُ: فإنَّ الذي يلفتُ النظرَ في حياةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الشخصيَّةِ أنَّه -ورغم انشغالِه في قضايا أمَّتِه- كان يُوجِّهُ أمَّتَه للاهتمامِ بالأسرةِ ورعايتِها، فقال: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي".

 

وسُئلت السيِّدةُ عائشةُ -رضي اللهُ عنها-: ما كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصنعُ في بيتِه؟ قالت: "كان يكونُ في مِهنةِ أهلِه، فإذا حضرتِ الصلاةُ خرج إلى الصلاةِ"، وقالت: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يخصفُ نعلَه، ويخيطُ ثوبَه، ويعملُ في بيتِه كما يعملُ أحدُكم في بيتِه".

 

بل إنَّ الإحسانَ إلى الزوجةِ استمرَّ بعدَ وفاتِها، فكان الوفاءُ لأمِّنا خديجةَ -رضي اللهُ عنها-. فقيلَ له يومًا: "ما زِلْتَ تذكرُها، وقد أبدلكَ اللهُ خيرًا منها؟"، فقال: "ما أبدلَني اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خيرًا منها؛ آمنتْ بي إذ كفرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَنِي الناسُ، ورَزَقَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ولدَها إذ حرمني أولادَ النساءِ".

 

راعى الحبيبُ -صلى الله عليه وسلم- أحفادَه، ولعبَهم في المسجدِ، وفي يومٍ كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي، فإذا سجدَ وَثَبَ الحسنُ والحُسينُ على ظهرِه، فإذا أرادوا أن يمنعوهمَا أشارَ إليهم أنْ دعوهما، فلمَّا قضى الصلاةَ وضعَهما في حجرِه؛ كان يُحسِنُ إلى الأطفالِ، ويُعامِلُهم بإنسانيَّةٍ راقيةٍ، ويتفقَّدُ أحوالَهم، ويُراعي طفولتَهم ورغبتَهم في اللعبِ.

 

فسألَ طفلًا يومًا عن طائرِ النُّغَيرِ كان يلهو به؛ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ -رضي اللهُ عنه-: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالُ له أبو عُميرٍ، قال: فكان إذا جاءَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَآهُ، قال: يا أبا عُميرُ ما فعلَ النُّغَيرُ؟"، وظهرَ إحسانُه إلى مَنْ كان يخدِمُه في بيتِه؛ فعن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللهُ عنه- قال: "خدمتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عشرَ سنينَ، واللهِ ما قالَ لي أُفًّا قطُّ، ولا قالَ لي لشيءٍ: لِمَ فعلتَ كذا؟ وهلَّا فعلتَ كذا؟".

 

أيُّها المسلمون: في هذا الوقتِ الذي نعيشُ فيه، نحنُ بحاجةٍ إلى أن نُوجِّهَ أبناءَنا وبناتِنا إلى الاقتداءِ بالرسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا يكونُ أوَّلًا بالعلمِ، وبالتعرُّفِ على سيرتِه وأحوالِه وأخلاقِه، ثم يكونُ الاقتداءُ الواعي الذي يَقتَرِنُ بنيَّةِ التعبُّدِ والثوابِ، وفي نفسِ الوقتِ فإنَّه ينبغي الحذرُ من تقليدِ التافهينَ والسفهاءِ وأدعياءِ الدينِ واتخاذِهم قُدواتٍ، وخاصةً أنَّ هناك مَنْ يُعرَفونَ بالمُؤثِّرينَ في مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ، والذين لهم حضورٌ في هذه المواقعِ لا ينشرونَ إلَّا التفاهاتِ والمناكَفاتِ والسجالاتِ العقيمةِ التي لا تخدمُ دِينًا ولا أُمَّةً.

 

فاللهمَّ اهدِ أبناءَنا وبناتِنا للاقتداءِ بنبيِّك، واهدِنا معهم يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ ارزقنا حُسنَ الاقتداءِ بنبيِّك، وحسِّنْ أخلاقَنا، وأكرِمْ نُزُلَنا.

 

اللهمَّ حبِّبْ إلينا الإيمانَ، وزيِّنْه في قلوبِنا، وكرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، اللهمَّ وتقبَّل أعمالَنا، وارزقْنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ، يا حيُّ يا قيُّومُ، برحمتِك نستغيثُ فأغِثْنا.

 

اللهمَّ واجبُرْ كسرَنا، وارحمْ ضعفَنا، واكشفْ غمَّتَنا، ونفِّسْ كُربتَنا.

 

اللهمَّ وارحمِ المستضعفينَ والمظلومينَ في كلِّ مكانٍ، وارفعِ البلاءَ عنهم يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ واحفَظْ لنا المسجدَ الأقصى المباركَ من كلِّ سوءٍ، وَاجَعْلْهُ عامرًا بالإسلامِ والمسلمينَ.

 

اللهمَّ ارحمْنا إذا وُسِّدْنا الترابَ، وتولَّى عنَّا الأهلُ والأحبابُ، وصِرْنا إلى سؤالٍ وجوابٍ، وارحمْنا إذا ما صِرْنا إلى ما صاروا إليه. اللهمَّ ارحمْنا فإنَّك بنا راحمٌ، ولا تُعذِّبْنا فإنَّك علينا قادرٌ، والطفْ بنا فيما جَرَتْ به المقاديرُ.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ:90]، اذكروا اللهَ العظيمَ يَذكُرْكُمْ، واشكروه على نعمِه يَزِدْكم، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين؛ وأقِمِ الصلاةَ يرحمْكَ اللهُ.

المرفقات

سيرة النبي .. منهج حياة.doc

سيرة النبي .. منهج حياة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات