عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله على الخلق 2/تقييد النعم بالشكر 3/شدة عداوة الشيطان للمسلم 4/من مداخل الشيطان 5/حقيقة العدو الغرور 6/خطورة الطغيان وكفران نعمة الله تعالى.اقتباس
اتعظوا بما حكى الله عن الأمم السابقة، وبما تشاهدون وتسمعون من حروب مُهلكة ومفزعة، وزلازل مدمرة ومشردة، فأحسنوا سرائركم مع الله، وأخلصوا له العمل، فلم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا هملاً، ولسنا بدائمي البقاء، ولا...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وسخّر له جميع ما في الكون من نعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو المن والعطاء والجود والكرم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الناس كافة من عرب وعجم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق تقواه، واشكروه على نعمه التي لا تحصى، فلقد كرمنا الله وحملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وفضلنا على كثير ممن خلق.
خلق الإنسان على أحسن الهيئات وأكملها، قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[سورة التين: 4]، وحمله في البر على الدواب وغيرها مما هو مسخّر له، وفي البحر على السفن، وفي الجو على الطائرات، ورزقه من الزروع والثمار واللحوم والألبان، وغير ذلك من سائر أنواع الأطعمة والأشربة والملابس الحسنة، على اختلاف أنواعها وأشكالها، وفضَّله على كثير ممن خلق من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[سورة الإسراء: 70].
نعم كثيرة من الله علينا لا تُحصى ولا تُعدّ، فضلاً عن شكرها، قال -تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[سورة النحل: 18]، فقيِّدوا -رحمكم الله- هذه النعم بشكرها، وبالقيام بطاعة من أنعم بها.
عباد الله: لنقوم ونتحمل ونتجمل بأصلح وأشرف وأسمى شيء خلقنا من أجله، ألا وهو عبادة الله -تعالى-، وتوحيده وذكره وشكره، فلقد هدانا -سبحانه-، وله الحمد والمنة لذلك، واصطفى لنا هذا الدين الإسلامي، واجتبانا لحمايته ونصرته؛ حيث بعث فينا نبي الرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-، رسولاً من أنفسنا نفهم أقواله وأفعاله، ونعرف صدقه وأمانته، وأنزل عليه كتاباً كله ذِكْر ودروس وعبر، وأخبار عن الحياة الماضية، وأمر ونهي وتذكير وتوجيه للحياة المستقبلية، وفيه ترغيب إلى كل ما صلح به الصالحون، وترهيب عن كل ما هلك به الهالكون؛ (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[سورة النحل: 89]، بلسان عربي مبين.
أنذرنا فيه -معشر بني آدم-، وقد أعذر من أنذر، بأن هناك عدواً لدوداً، خادعاً ماكراً، يريد أن يجتالنا عن ديننا، شيطاناً مريداً، لعنه الله وأبلسه من رحمته بسبب عصيانه لأمره وتكبُّره عن السجود لأبي البشر آدم -عليه السلام-.
فيا عباد الله: لنحذر غاية الحذر من هذا العدو اللدود؛ الشيطان؛ فإنه كما طُرد من رحمة الله فإنه ساع بجد في هلاك البشر، وفاتن كل مَن يستطيع فتنته، ليصده عن ذِكْر الله وتوحيده وطاعته، ويضعف يقينه وتمسكه بهذا الدين الإسلامي الحنيف؛ (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)[سورة الأعراف: 27]، وقال -تعالى-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[سورة فاطر: 6].
وقد جعل الله هذا العدو خفياً علينا فلا يراه الإنسان بالعين المبصرة؛ (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)[سورة الأعراف: 27]، ولكن برحمته -تعالى- وتوفيقه وجوده وكرمه، فقد جعل الإيمان به -تعالى- والعمل بكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- نوراً وبصيرة للقلوب، تكشف به أمر هذا العدو ومكائده وخداعه وملابساته، وتقهره على قدر ما بهذه القلوب من الإيمان والعلم والمعرفة.
ومِن ثَم تنبعث شعلة الجهاد على الجوارح، فتعمل في طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ضد هذا العدو، وتحارب بكل وسيلة على قَدْر الاستطاعة والوسع كل ما تراه وتسمعه من أعوانه وأتباعه، كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر"؛ أي يأخذ بناصيته ويهزله ويقهره.
وكل ذلك عون من الله -تعالى- لعباده المؤمنين بسبب إيمانهم وعملهم الصالح، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا)[سورة الحج: 38]، وقد أخبر -تعالى- عن المؤمنين المتوكلين عليه بأنه غير مُسلَّط عليهم، فقال -تعالى-: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[سورة النحل: 99].
ومن تمام نعمة الله على عباده: تنبيههم بما عزم الخبيث على فعله، ليأخذوا حذرهم ويستعدوا له، بإعلامهم بالطرق التي يأتي منها ومداخله التي ينفذ منها؛ فقال -تعالى- مخبراً عن إبليس -لعنه الله- حين قال مخاطباً لله -عز وجل-: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[سورة الأعراف: 16-17].
فيا أيها المسلمون: هذا عدوكم الأول، وهذا ما بيَّته لكم من الكيد، قد ابتلاكم الله به، وأعلمكم بخطره لينظر كيف يكون جهادكم معه، وعملكم ضده، أما الرد الإلهي على هذا الفاسق اللعين، فقد جاء -والحمد لله- جزاء له على عصيانه وكفره وتكبره، الطرد له من الجنة، مع الذم له والاحتقار والهلاك، وسوء المصير، وكذا من تبعه، قال -تعالى-: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)[سورة الأعراف: 18].
فما أعظم هذا القول في معناه وفي هدفه، وما أخطره في أوله وفي آخره، فخَفْه أيها العبد، واجعله نصب عينيك، وفي سويداء قلبك، حتى لا يأخذك عدوك إبليس على غرة، وكم لله -تعالى- عن هذا الشيطان وعن خطره وشره من آية وبيان ونذر، جاءت منه -تعالى- رحمة لبني آدم، ليكشف لهم العدو الغرور على حقيقته، فقال -تعالى- مخبراً عن فسقه وتكبُّره عن السجود لأبي البشر وعن ما قاله في ما عزم عليه من الكيد لذريته: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)[سورة الإسراء: 62].
ثم ماذا -يا عباد الله- قال له الرب؟ لقد قال له قولاً عظيماً مرهباً للمسلم؛ لما يتجلى له من مكائد الشيطان ومداخله التي يأتينا منها، فما أكثرها! إنه لرد يقطع القلوب الحية ويململ المضاجع لمن تصوره حق التصور، لقد قال -تعالى، وقوله الحق-: (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)[سورة الإسراء: 63-64].
فيا عباد الله: هذه بعض من الأخبار عن حقائق عدوّنا الذي يجري منا مجرى الدم، فما موقفنا منه؟ هل وعينا حقيقته؟ إن كان الجواب بنعم فما هي الآثار الظاهرة في طاعته؟ وهل وعينا النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة؟ وميزنا بينهما؟ وهل عرفنا الآثار التي قد تحدث بسبب الغضب؟ والآثار التي تحدث بسبب الشهوة؟ والآثار التي قد تحدث بسبب الهوى؟ وهل عرفنا أولياء الشيطان وميزنا بينهم وبين أولياء الرحمن؟ هل تذكرنا أن الواحد منا قد يزين له سوء عمله فيراه حسنا؟
أيها المسلمون: إن هذه الاستفهامات ما هي إلا تذكير ببعض ما تعرفون، فإن كنا نتواصى حقاً بشكر نعم الله علينا؛ فعلينا بالجد والاجتهاد للسلامة مما ابتلانا الله به في هذه الحياة، التي هي حقاً دار ابتلاء واختبار، ودار مسابقة إلى أعلى الدرجات، أو كسل وخمول وانحطاط إلى أسفل الدركات.
اللهم ارزقنا الجد والاجتهاد إلى أعلى الدرجات، وسلّمنا من الكسل والخمول والانحطاط، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[سورة البقرة: 208-209].
بارك الله لي ولكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له معز من أطاعه ومذل من عصاه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا قدره وأثنوا عليه بما أثنى به عليه ربه، أو أثنى به هو على نفسه من غير غلو ولا تقصير، وكذا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى- واشكروه على نعمه، واحذروا من سخطه ونقمته، فما أكثر القرى التي أهلك أهلها بسبب طغيانهم وكفرانهم لنعمة الله، قال -تعالى-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)[سورة القصص: 58]، وقال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[سورة النحل: 112].
معشر المسلمين: اعتبروا -رحمكم الله- واتعظوا بما حكى الله عن الأمم السابقة، وبما تشاهدون وتسمعون من حروب مُهلكة ومفزعة، وزلازل مدمرة ومشردة، فأحسنوا سرائركم مع الله، وأخلصوا له العمل، فلم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا هملاً، ولسنا بدائمي البقاء، ولا بد لنا من مأوى، وطريق الوصول إلى الله ومرضاته يحتاج إلى جد واجتهاد، وصبر وعتاد، واسترشاد بنوره -تعالى-، لنصل إلى تلك العلالي والهناء.
اللهم اهدنا الصراط المستقيم وانهج بنا منهج نبيك الكريم، وأعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن نزغات الشيطان الرجيم، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم