اقتباس
إخواننا: لقد وعد نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن من تمسك بالدين لا يُقهر أبدًا مهما تكالب عليه أهل الأرض، قائلًا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"؛ فإن أول...
إذا ذُكرت كلمة: "رجل"، ذُكِرت معها معاني الشهامة والمروءة والنخوة والأنفة والفتوة والعزة والشموخ والدفاع عن الحمى... ولقد كانت العرب تفتخر بتلك المعاني التي ما تعلقت إلا بالرجل دون الأنثى، فهذا عنترة بن شداد يفتخر بقهر الأعادي وسحقهم والغلبة عليهم وقهرهم وردهم عن أهله وبلاده فيقول:
وإنْ دارْتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي *** ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ
بسيفٍ حدهُ يزجي المنايا *** وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ
خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلبًا *** وقد بليَ الحديدُ ومابليتُ
وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا *** ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ
وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي *** بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ
فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ *** ولا للسيفِ في أعضائي َقوتُ
ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا *** تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ
فالرجولة قوة وبأس وصلابة وعزم، لا تقبل الانكسار ولا التقهقر، شعارها عند العرب:
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا *** وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِرًا وَطِيْنَا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا *** أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِيْنَا
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ *** تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِديْنَا
ولما جاء الإسلام أكد هذه المعاني ونمَّاها، لكنه نظفها من الجور والظلم والتعالى.
***
لكن السؤال المؤلم يقول: هل يُقهر الرجال؟! هل يُغلب الرجال؟! هل يُذل الرجال؟!...
الواقع الذي تراه الأعين يجيب: نعم يُقهرون ويُذلون ويستباحون، وإن قهر الرجال مذاقه كالعلقم، ووقعه كالسيف، وأثره ذل وهوان وصغار واستضعاف وضياع...
هل تسمع هذا الصوت؟ أنه صوت القهر إنها صرخة العار والذل؛ صرخة هذا الرجل الفلسطيني المسن الذي كبل الإسرائيليون يديه خلف ظهره بعد أن اقتحموا بيته، وأطلقوا كلبهم البوليسي ينهش لحم ولده، وانطلقوا هم يهتكون عرض بناته أمام عينيه التي انهمرت بالدموع كمدًا وقهرًا وهو يصرخ من أعماق أعماقه: وا إسلاماه! وا إسلاماه!
إنها صرخة القهر والخذلان؛ صرخة هذا الأب المكلوم الذي أخرجوه من تحت أنقاض منزله الذي أصابه الصاروخ اليهودي؟ هل ترى هذا الدم على ثيابه؛ إنه دم زوجته التي مُزقت تحت الأنقاض، أما هذا الذي يتضاغى جوعًا عند قدميه فإنه طفله الوحيد الذي نجا من القصف وقد بترت ساقه، يصرخ: أبتاه أين أمي؟! أبتاه ما هو ذنبي؟! أبتاه أين المسلمون؟! أيشكون قلة أم عوزًا؟ ماذا ينتظرون؟ لماذا لا يزأرون؟ أم هم في سكرتهم يعمهون؟!
هل تسمعها؟! إنها صرخات القهر انطلقت من حناجر المظلومين والمشردين والمجوَّعين والمخذولين... من اغتصبت أراضيهم، والمسلمون صامتون! وانتهكت أعراضهم، والمسلمون مغيَّبون! وضمرت من الجوع أجسادهم، والمسلمون متخمون! وتتداعت عليهم الأمم والمسلمون يراقبون ولا يتحركون؟!
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
***
تُراك الآن قد علمت إجابة السؤال الذي يقول: هل يعرف المسلمون المعاصرون "قهر الرجال" ذلك؟! وكيف يعرفونه وتعاليم دينهم تأباه؟!...
ويتملكنا الأسى والحزن ونحن نجيب: بل منهم الآن من هم فيه غارقون حتى النخاع.. منهم من ذاقوه وعاينوه وعاشروه حتى أدمنوه وأُشربوه وألفوه.. بل إن منهم من استساغ الذل والهوان واستعذبه ودان لمن يذله بالسمع والطاعة والولاء؟!
إن مِن المسلمين مَن ذاق الذلة حين تخلى عن دينه وسعى خلف المناهج الأرضية الضالة من رأسمالية واشتراكية وشيوعية وغيرها من مناهج الخبال... وصدق الفاروق عمر بن الخطاب لما قال: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي والألباني).
إن من المسلمين من تجرع مرارة القهر لما انغمس في المعاصي والذنوب وضيَّع حدود الدين وتعلَّق بدنياه ونسي آخرته، فها هو الفاروق -أيضًا- يكتب إلى قائده سعد بن أبي وقاص قائلًا: "وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي من احتراسكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون على عدوهم بمعصية عدوهم الله، ولولا ذاك لم يكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا والقوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا"(بدائع السلك، لابن الأزرق).
إن من المسلمين من اكتوى بنار القهر حين تفرقوا وتشرذموا وتنازعوا وتجاهلوا الأمر القرآني: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وعصوا الأمر الإلهي: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46]... وانظر إلى إخواننا في السودان التي كانت "سلة غذاء العالم العربي" لما تنازع أهلها كيف ضُيِّعوا وضَيَّعوا!...
إن من المسلمين من يهان وبه يستهان حين قصَّروا في الأخذ بالأسباب وتخلفوا عن الركاب وسمحوا لأعدائهم أن يتقدموا عليهم في العلم المادي والعتاد العسكري، حتى صار المسلمون عالة وتبعًا وذيلًا!... وكأنهم ما سمعوا: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60].
إن المسلمين من يُقهرون ويُذلون حين سكن قلوبَهم الوهنُ؛ وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، قيل: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)... وانظر إلى أكثر من مليار مسلم حول العالم كيف يقفون متخاذلين عاجزين حتى عن فك الحصار المفروض على غزة وإدخال الطعام لهم، فضلًا عن يردوا العدو ويقمعوا المعتدي!
وانظر إلى ما يقع في ميانمار وما يحدث لمسلمي الروهينجا، وانظر إلى الشيشان التي انتُزعت، وإلى اليمن التي ضاعت، وإلى البوسنة والهرسك وكأنها صفحة طويت، وإلى جراح ما اندملت، وإلى صرخات ما سُمعت، وإلى آهات بقذائف الدبابات قُمعت... جراح تتلوها جراح ومصائب يجدد بعضها بعضًا، ذكرتنا بجرح الأندلس القديم الذي ما نسيناه، ولا نساه أبو البقاء الرندي:
فَجائِعُ الدُهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ *** وَلِلزَمانِ مَسرّاتٌ وَأَحزانُ
وَلِلحَوادِثِ سلوانٌ يُهوّنُها *** وَما لِما حَلَّ بِالإِسلامِ سلوانُ
دهى الجَزيرَة أَمرٌ لا عَزاءَ لَهُ *** هَوَى لَهُ أُحُدٌ وَاِنهَدَّ ثَهلانُ
تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ *** كَما بَكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ
عَلى دِيارٍ منَ الإِسلامِ خالِيَةٍ *** قَد أَقفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما *** فيهِنَّ إِلّا نَواقِيسٌ وصلبانُ
حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ *** حَتّى المَنابِرُ تَبكي وَهيَ عيدَانُ
تِلكَ المُصِيبَةُ أَنسَت ما تَقَدَّمَها *** وَما لَها مِن طِوَالِ الدهرِ نِسيانُ
***
نعود فنؤكد ونقول: إن طريق الخلاص والنجاة معروف: تمسُكٌ بالدين واعتصامٌ بحبل الله المتين واتحادٌ بين المسلمين وصبرٌ ومصابرة: يكون العز والتمكين.
إخواننا: لقد وعد نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن من تمسك بالدين لا يُقهر أبدًا مهما تكالب عليه أهل الأرض، قائلًا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(متفق عليه)؛ فإن أول أوصاف تلك الطائفة أنهم متمسكون بدينهم حريصون عليه أكثر من حرصهم على أرواحهم ودمائهم.
وها هم خطباؤنا يشخصون سبب القهر والذل والاستضعاف، ويقدمون له الدواء الناجع من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهل نحن متبعون؟
                            
                            
            
            
            
            
                                
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم