عناصر الخطبة
1/توزيع النبي لغنائم حنين 2/جمع النبي للأنصار وحديثه معهم 3/عتاب النبي للأنصار ودلالاته 4/مفهوم العتاب في الإسلام 5/نماذج من معاتبات النبي لأصحابه 6/من مضامين وأهداف معاتبات النبياقتباس
لم يُعاتب ليُثبت خطأهم، بل استفهم ليُعيد القلوب إلى صفائها، لم يكن يبحث عن اللوم، بل عن الوصال، العتاب النبوي منهج تربوي، فلم يُعاتبهم أمام الآخرين، بل جَمَعَهُمْ وحدهم فَي قُبَّةٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ؛ حفاظًا على كرامتهم ومشاعرهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، تبارك رباً، وجلّ ملكاً، وتقدس إلهاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)[هود: 107]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4].
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ، بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ، حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، فَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَنَادَى فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ"، فَقَالُوا: لَبَّيْكَ، يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ" قَالُوا: لَبَّيْكَ، يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى، وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا، قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟".
فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ"، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، رَضِينَا، فَقَالَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَأَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ"، "سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُنِّي عَلَى الحَوْضِ".
حديث عظيم يحملُ جملاً قصيرة في مبناها، عظيمة في معناها، عميقة في محتواها، واسعة في مدلولاتها، كلماتٌ تحوي درساً في القيادة، والتربية، والتواصل الاجتماعي والأسري.
فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ *** ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ
وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ *** غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]، "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟"، الجملة بكاملها ليست مجرد سؤال، بل إعلان نية حسنة، وإشعار بالمحبة، وتوطئة لحديثٍ قوامه الرفق والمصارحة، هذه الكلمات حملت أعلى مقامات التربية في الاستفهامِ والمعاتبة وتصحيح المفاهيم.
"مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟"، لم يُعاتب ليُثبت خطأهم، بل استفهم ليُعيد القلوب إلى صفائها، لم يكن يبحث عن اللوم، بل عن الوصال، العتاب النبوي منهج تربوي، فلم يُعاتبهم أمام الآخرين، بل جَمَعَهُمْ وحدهم فَي قُبَّةٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ؛ حفاظًا على كرامتهم ومشاعرهم، وهذا من أصول الرقي العاطفي في القيادة: أن تُعاتب بلا جرح، وتُصحّح بلا تشهير، قال بعض الحكماء: "العتاب حياة المودة، فمن تركه ماتت الألفة".
لقد جسد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أعلى معاني الحس العاطفي والتصحيح الممزوج بالثناء، فَقَالَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَأَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ"، جمع بين التوجيه والمكافأة، وبين النقد والمدح، وبين المصارحة والمودّة، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].
يا صاحبَ الخُلُقِ الرفيعِ إذا *** ضاقَ اللسانُ تولّى الفعلُ تبيانِ
يفشل كثير في تصحيح خطأ من فرد، ويخفق آخرون في انصات لكلمة لم يتبين مرادها، فما بالك إذا رمي مجتمع، وحمل كلام لم يحتمل من عالم أو حتى من أخٍ أو زوجة، وترتب عليه سوء ظن أو أسقاط لحق؟.
يُجلي هذا الحوار النبوي أربعة أصول من التربية، قيادية وتربوية: الاستماع قبل الحكم، والرحمة قبل العتاب، والتذكير بالفضل قبل العقوبة، والاحتواء قبل الإقصاء؛ "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشاء والبعير، وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟"، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله قسمًا وحظًا".
إننا بحاجة جميعا أفراداً وأسرا ومؤسسات خيرية ورسمية إلى من يُعاتب ليُصلح لا ليُجرح، إلى من يُذكّر بالودّ لا بالذنب؛ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83]، فإن للكلمة أثرًا في النفوس لا تُدركه السيوف.
ولا تعتبِ الإنسانَ في كل زلةٍ *** فإنك إن تعتبْ يُملّك عاتبُ
ولكنْ إذا ما الغدرُ باتَ خليلةً *** فثمَّ العتابُ النبويُّ الصائبُ
واجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في حياته مجتمعًا متنوعًا، أنصاراً ومهاجرين، مؤلفة قلوبهم، ومنافقين، وأعرابًا حديثي عهدٍ بالإسلام، ومع ذلك لم يسمح لأي خلاف أن يتحول إلى قطيعة.
في غزوة بني المصطلق، كاد المهاجرون والأنصار أن يقتتلوا حين قال أحدهم: "يَا لَلْأَنْصَارِ"، وقال الآخر: "يَا لَلْمُهَاجِرِينَ"، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟!"، "دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"(متفق عليه)، هذا أسلوب إطفاء الفتنة بالكلمة، لا بالسيف، ووأد الخلاف قبل أن يتضخم.
إن عبارة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟"، ليست مجرد جملة عتاب، بل منهج حياة، فيها فقه القلوب، ولبّ القيادة، وروح التربية، وجمال البلاغة، وعدل الدين.
فما أحوجنا في زمن القسوة وسرعة الأحكام والاتهام، أن نتخلّق بهذا الأدب النبوي العظيم،
فنسمع قبل أن نحكم، ونسأل قبل أن نُعاتب، ونُصلح قبل أن نُفارق.
لما اُتُّهمت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، لم يسارع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بالحكم، رغم عِظم التهمة، بل قال للناس: "من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟"، ثم قال لعائشة: "يا عائشة، إن كنتِ بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله"(رواه البخاري)، رغم الألم، كان منصفًا، عادلًا، مترفعًا عن الظنون، حتى جاء الوحي ببراءتها!، قال إياس بن معاوية:
إذا ما جهلتَ من امرئٍ ظنونًا *** فخيرُ الظنِ أن تحسنَ بهِ الظنا
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83]، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وأصحابه.
أما بعد: العتاب في الإسلام ليس تصفية حساب، بل وسيلة تزكيةٍ وإصلاح، عاتب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أعزّ أصحابه في مواضع كثيرة، لا ليُسقطهم بل ليرفعهم، عاتب أبا ذرٍّ حين عيّر رجلًا بأمه، فقال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، فأصلح قلبه، ولم يُهِن قدره.
وعاتب أسامة بن زيد حين شفع في حدٍّ، فقال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!"، فأيقظ في نفسه الإيمان بعد الغفلة، وعاتبه عندما قتل من نطق بالشهادة فَقَالَ: "أقتلته بعد ما قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؛ حَتَّى تَعْلَمَ: أَقَالَهَا أَمْ لَا؟"، معاتبة رقيقة لكنها شديدة التأثير، تُربي على تعظيم كلمة التوحيد، وصيانة الدماء وحسن الظن بالناس، والأخذ بالظاهر لا التدخل بالنيات.
معاتبات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وذكره للأخطاء لم تكن لتصفية حسابات، أو تتبع زلات، أو تشهير بسقطات، بل ليصلح الخطأ، ويقيم القلوب على سواء الصراط.
السيرةُ النبويةُ والمواقفُ المحمديةُ كنوزٌ من الحكمة والإصلاح، تنبضُ بالرحمة، وتفيضُ بالنور، وتزخرُ بالدروس التي تُهذِّبُ النفس وتُقيمُ السلوك.
السيرةُ ليست أحداثَ تُروى، ولا مواقفَ تُسجَّل، بل هي مدرسةُ تُعلِّم الإنسانَ كيف يُحسنُ إذا غضب؟ وكيف يرحمُ إذا قَدِر؟ وكيف يُصلِحُ إذا أخطأ غيره؟ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)[الأنعام: 152].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم