معركة شبش : الانتصار رعباً

شريف عبدالعزيز

2025-10-15 - 1447/04/23
التصنيفات: وقائع تاريخية

اقتباس

وفي ليلة 22 سبتمبر وقعت حادثة في منتهى الغرابة كانت من صنع الله -تعالى- لعباده الموحدين؛ حيث تقدمت فرقة استطلاع نمساوية وتوغلت في الخطوط الأمامية من أجل جمع الأخبار عن...

في الصّحيحين عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي اللهُ عنهما- أنّ النّبيَّ -صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم- قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً». أخرجه البخاريّ في «التّيمّم» باب التّيمّم (١/ ٧٨)، ومسلم في «المساجد ومواضع الصّلاة» (١/ ٢٣٦).

 

هذا الحديث الشريف يفيد أن فضيلة النصرة بالرعب من خصوصيات النّبي -صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تفرد بها عن سائر الأنبياء، وتفردت بها أمته عن سائر الأمم، إذ كلما توجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو ملأ الله تعالى قلوبهم رعبًا شديدًا وخوفًا وهلعًا مِن مقدمه صلى الله عليه وسلم عليهم-.

 

وتلك الميزة والخصوصية لا تقتصر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، ولكنها تنسحب على صالحي أمته، حيث تعم هذه الفضيلة سائر من اتبع هديه وسار على نهجه فحقق الإسلام وصحّح العقيدة وقام بالشريعة إجمالاً، وعندها فإن الرعب باق في نفوس أعداء الإسلام.

 

 وقد يعتقد البعض أن فضيلة النصرة بالرعب تختص بفترات قوة الأمة المسلمة وهيمنة دولة الخلافة، ولكن المتتبع لأحداث التاريخ يلاحظ بأنه على الرغم من ضعف المسلمين في فترات كثيرة من التاريخ خاصة في المتأخرة منها فإن الكفار وخصوم الأمة مازالوا في حالة رعب مستمرة من جند الإسلام!! وخاصة رعبهم من استفاقة المسلمين ورجوعهم لمصدر قوتهم وعزهم الأصلي والحقيقي؛ الدين. لذلك يحدث منهم الهجوم الشرس على المسلمين بمختلف الوسائل قصد إبعادهم عن دينهم، كل ذلك خوفًا ورعبًا من التمكين للإسلام فتتزلزل أقدامهم.

 

والنصرة بالرعب وعد قرآني وسنة كونية قدرية ماضية إلى قيام الساعة؛ قال تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)آل عمران ١٥١].

قال أهل العلم إن هذا العموم بالآية ومعها الحديث على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا في قلبه ضربٌ من الرعب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه.

 

ونحن على موعد مع مثال حقيقي على معنى الانتصار رعباً، وفي فترة من فترات الضعف والانحدار الحضاري والسياسي للمسلمين ومع ذلك حقق المسلمون نصراً عجيباً قُتل وأُسر فيه عشرات الآلاف من أعداء المسلمين من غير أن يطلق المسلمون رصاصة واحدة!! وذلك في معركة شبش أو كارانسيبيش كما تذكرها المراجع الأوروبية.

 

النفوذ الانكشاري وضعف الدولة العثمانية

اتفق المؤرخون على أن عهد السلطان سليمان القانوني كان ذروة المجد للدولة العثمانية، وأن برحيله سنة 974ه-1566ميلادية بدأت الدولة في عهد الاضمحلال والتراجع، حيث تولى العديد من الخلفاء والسلاطين غير المؤهلين والجديرين لهذا المنصب الخطير، وأنه لولا فضل الله -تعالى- على الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بوجود عدة وزراء أقوياء وقادة محنكون وأسر سياسية قوية مثل أسرة صقلي باشا وكوبريي باشا لانهارت الدولة بأسرع مما وقع بصورة كبيرة.

 

وكان من أهم أسباب فترة الضعف والتراجع الحضاري للدولة العثمانية في القرنين السابع والثامن عشر ميلادي هو تدخل قادة الجند الانكشارية في أمور السياسة والحكم واتخاذ القرارات العامة، بل إن أيديهم امتدت إلى الخلفاء والسلاطين بالتعين والعزل وأحياناً القتل، وكان قتلهم للسلطان عثمان الثاني سنة 1031ه-1621ميلادية فاتحة قتل السلاطين العثمانيين على يد الانكشارية في تكرار لنفس المشهد الذي حدث قبل ذلك بحوالي سبعة قرون ونصف في الدولة العباسية عندما قتل القادة العسكريون الأتراك الخليفة العباسي المتوكل على الله سنة 247ه، وكان ذلك فاتحة ضعف ثم انهيار الخلافة العباسية!!

 

الحروب الروسية العثمانية

كان الروس على الدوام ومنذ فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح سنة 857ه-1435ميلادية، ينظرون إلى العثمانيين نظرة مريرة يملأها الحقد والكراهية والرغبة العارمة في الانتقام، لذلك اعتبروا أنفسهم من وقتها حماة المذهب الأرثوذكسي والمطالبين باستعادة عرش بيزنطة القديم، ولكن مع قوة واتساع الدولة العثمانية ظل الروس في حالة استعداد وتربص وتحين للفرصة المواتية لاستعادة مجد الكنيسة القديمة.

 

ومع زيادة ضعف الدولة العثمانية وتضعضع مكانة السلطان العثماني وتقلص نفوذه بسبب تدخل قادة الانكشارية، بدأ الروس في توحيد إماراتهم تحت راية أمير موسكو حتى أقاموا إمبراطورية أو قيصرية، وتوجهوا بأطماعهم نحو الإمارات والممالك الموالية والتابعة للدولة العثمانية والقريبة من حدود القيصرية الروسية الجديدة.

 

 الحروب الروسية العثمانية هي سلسة من الحروب التي نشبت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية واستمرت لأكثر من ثلاثة قرون ونصف. وقد أنهكت هذه الحروب وغيرها السلطنة العثمانية حتى بداية القرن العشرين. كانت هذه الحروب العثمانية في الأساس لوقف الأطماع الروسية في غزو أراضي خانية القرم العثمانية وكبح كماح الروس في السيطرة على البحر الأسود وممراته (البوسفور والدردنيل) نحو مياه المتوسط الدافئة.

 

وانتهت أغلب المعارك بانتصار روسيا مما أدى في معظم الأحيان بمعاهدات قاسية على الدولة العثمانية تخلّت فيها عن خانية القرم ولاحقا سمحت بمرور السفن الروسية من البوسفور دون قيود.

 

التحالف الروسي النمساوي

في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية تم إبرام تحالف روسي نمساوي ضد الدولة العثمانية من أجل القضاء عليها واستعادة مملكة بيزنطة القديمة وعرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة وذلك سنة 1781ميلادية. وكانت بداية العمل ضد الممالك الأوروبية التابعة للدولة العثمانية مثل بولندا والسويد.

 

خرقت روسيا معاهدة قينارجة باحتلالها لبلاد القرم، فجن جنون العثمانيين وأرادوا إعلان الحرب على روسيا لاسترجاع بلاد القرم، لكن فرنسا نصحت السلطان عبد الحميد بعدم الإقبال على إعلان الحرب بسبب استعداد روسيا المسبق لحرب العثمانيين ولعلم الفرنسيين عن معاهدة عسكرية سرية بين كاترين الثانية وإمبراطور النمسا لقتال العثمانيين في نفس الوقت في حال اندلاع أي حرب روسية عثمانية جديدة، لكن الملكة الروسية كاترين استفزت مشاعر الخلافة في عام 1787م بزيارتها لأراضي القرم حيث كانت قد نصبت لها أقواس النصر المكتوب عليها (الطريق إلى بيزنطة) والمقصود هنا هو طموح روسيا باستعادة ممتلكات الحضارة البيزنطية وإعادة السيطرة الأرثوذكسية على القسطنطينية فأعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا.

 

إمبراطور النمسا جوزيف الثاني لم يكن ميالاً للتورط في حرب ضد العثمانيين بسبب متاعب داخلية وحدودية كثيرة مع جيرانه الأوروبيين، ولكن بسبب إلحاح الروس عليه بالدخول في الحرب ضد العثمانيين قرر خوض التجربة التي جاءت في فترة هي الأسوأ لشن مثل هذا النوع من الحروب ضد دولة ذات ثقل وتاريخ كبير مثل الدولة العثمانية.

 

معركة شبش أو كارانسيبيش

شبش بالتركية وكارانسيبيش بالرومانية القديمة هي مدينة تقع بأراضي رومانيا الآن شهدت أراضيها أعجب معركة وقعت في التاريخ المعاصر، نصر فيها الله -عز وجل- العثمانيين على ضعفهم وتراجعهم الديني والحضاري على النمساويين وحلفائهم من الأوروبيين والروس وذلك في ليلة 22 سبتمبر سنة 1788ميلادية.

 

حيث كان يعسكر الجيش النمساوي بأعداد كبيرة في هذه المدينة وقائده العام هو الإمبراطور نفسه جوزيف الثاني والذي كان متردداً للصدام المباشر مع العثمانيين، ولكنه حاول أن يتغلب على مخاوفه اعتماداً على الدعم الروسي بفرقة كبيرة من الجنود الصرب الذين جاءوا لدعم الجيش النمساوي.

 

وفي ليلة 22 سبتمبر وقعت حادثة في منتهى الغرابة كانت من صنع الله -تعالى- لعباده الموحدين؛ حيث تقدمت فرقة استطلاع نمساوية وتوغلت في الخطوط الأمامية من أجل جمع الأخبار عن الجيوش العثمانية.

 

وفي الطريق وجدوا تجمعاً للغجر حيث يباع الخمر فجلسوا وسكروا حتي الثمالة، بعد قليل جاءت مجموعة من كتيبة المشاة النمساويين للانضمام لهم فوجدوهم في حالة سكر بين، فرفضوا انضمام المشاة واحتد النقاش بينهم وعلت أصواتهم، وفي خضم الجدال أطلق أحدهم طلقة، فصاح المشاة أنهم يتعرضون لهجوم عثماني! فاعتقدت فرقة الكشافة السكارى أن الأتراك جاؤوا من خلفهم ففروا إلى الكتائب المتقدمة من الجيش بهلع، فظنت هذه الكتائب المتقدمة بدورهم أن العثمانيين هجموا! فبدأت كتائب المقدمة هذه في الهروب ناحية المعسكر الرئيسي.

 

وكان الجيش النمساوي خليطاً غير متجانس به جنود كثيرون يتحدثون الألمانية والصربية والكرواتية ولغات عديدة وكان كل منهم يصيح بلغة مختلفة، فظن المعسكر أن هؤلاء هم الأتراك يعصفون بالمعسكر ففتحوا النيران ونشب القتال وبدأ الكل في قتل من بجواره وعمت الفوضى العارمة واستولى الرعب على النفوس، وما لبث أن هزم الجيش النمساوي نفسه. فقتل في هذه المعركة أكثر من عشرة آلاف وفر الباقون. ثم بعد يومين، وصل الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم خوجة يوسف باشا، ليجدوا أكثر من عشرة آلاف قتيل من النمساويين، وباقي الجيش مرعوب مشلول من شدة الخوف والهلع، فأسروا منهم خمسين ألفاً، وكان يوماً على الكافرين عسيراً.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات