أَمَارَاتُ الإِخْلاصِ وَثَمَرَاتُهُ.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَلالِ، تَفَرَّدَ بِالْكِبرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَمَالِ، أَحْمَدُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَمَرَ بِالإِخْلاصِ وَاصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ المُخْلِصِينَ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَحْدهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْوَاحِدُ الحَقُّ المبينُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إِلى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
عِبَادَ اللهِ: اعْلمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيم، وَمُوَافِقًا لِشَرْعِهِ الْحَكِيمِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة (5). وَمِنْ أَهَمِّ الأَبْوَابِ الَّتِي يَجِبُ عَلى المُسْلِمِ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِيهَا: بَابُ النِّيَّةِ في الطَّاعَاتِ، والمَقَاصِد مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَتَصْفِيَة السِّرِّ والْعَلَن، وَإِخْلاصُ الْقَوْلِ وَالْعَمَل؛ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، قَالَ ﷺ (إنَّ اللَّهَ لا يقبلُ منَ العملِ إلّا ما كانَ لَهُ خالصًا وابتغيَ بِهِ وجهُهُ) أخرجه النسائي (3140).
أَيُّهَا المؤمِنُونَ: اشْتَرَطَ الْعُلَمَاءُ لِقَبُولِ الأَعْمَالِ شَرْطَيْنِ هما: الإخْلاصُ، وَمُتَابَعُةُ النَّبِيِّ ﷺ والإِخْلاصُ أَصْلُهُ تَخْلِيصُ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ شَوْبٍ يُكَدِّرُ صَفَاءَهَا، فَتَكُونُ كَاللَّبَنِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، فَهَكَذَا الْعِبَادَةُ إِذَا تَحقَّقَ فِيهَا الإِخْلاصُ كَانَتْ خَالِصَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ نَقِيَّةً مِنْ كُلِّ شَوْبٍ وَشِرْكٍ، وَإِخْلاصُ الْعِبَادَةِ للهِ عزَّ وجلَّ هُوَ الَّذِي بَعَثَ اللهُ عزَّ وجلَّ لأَجْلِهِ الأَوَّلِينَ وَالآَخِرِينَ، وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ عَلَى الْعَالمِينَ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) الزمر: [2].
عِبَادَ اللهِ: وَالإِخْلاصُ عَزِيزٌ عَلَى الْمَرْءِ، عَسِيرٌ عَلى الْقَلْبِ، شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ؛ سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ قَالَ: (الإِخْلاصُ؛ إِذْ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ) وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: (مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ). فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا تَمِيلُ لِلظُّهُورِ وَالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَفِي الإِخْلاصِ قَطْعٌ لِحُظُوظِ النَّفْسِ وَعَلائِقِ الْقَلْبِ، ولذا قيل: (إِخْلاصُ سَاعَةٍ، نَجَاةُ الأَبَدِ، وَلَكِنَّ الإِخْلاصَ عَزِيزٌ).
أَيُّهَا المؤمنُونَ: وَلِلإِخْلاصِ عَلامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا الْمَرْءُ وَمِنْهَا:
أولًا: اسْتِوَاءُ المَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ النَّاسِ، فَلا يَغْتَرّ بِمَدْحٍ، وَلا يَسْتَاءُ لِذَمٍّ، أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، وَيُرَى مَكَانِي، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وجَلّ: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف: [110].
ثانيًا: وَمِنْ عَلامَاتِ الإِخْلاصِ: إِخْفَاءُ الْعَمَل وَكِتْمَانه، إِلا مَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ، أَوْ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (اجْعَلُوا لَكُمْ خَبِيئَةً مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ لَكُمْ خَبِيئَةً مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئ) وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ أَبْو حَازِمٍ: (اكْتُمْ حَسَنَاتِكَ أَشَدّ مِمَّا تَكْتُمُ سَيِّئَاتِك).
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَللإِخْلاصِ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنْهَا:
أولًا: أَنَّ الإِخْلاصَ سَبَبٌ لِقَبْولِ الأَعْمَالِ؛ وَسَبَبٌ لمُضَاعَفَةِ الأُجُورِ، أَلا تَرَى أَنَّ رَجُلًا أَزَالَ شَجَرَةً تُؤْذِي المسْلِمِينَ فِي طَرِيقِهِمْ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: (لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النّاس) أخرجه مسلم (1914).
ثانيًا: وَالإِخْلاصُ يُحَوِّلُ الْعَادَات إِلَى عِبَادَاتٍ يُؤْجَرُ الْمَرْءُ عَلَيْهَا، قَالَ ﷺ: (إنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بها وجْهَ اللهِ إلّا أُجِرْتَ عَلَيْها حتّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ) أخرجه البخاري (56)
ثالثًا: وَالإِخْلاصُ سَبَبٌ لاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ، وَلَمِّ الشَّمْلِ، وَزَوَالِ الْهَمِّ، وَسِعَةِ الرِّزْقِ، قَالَ ﷺ: (مَنْ كَانَتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عَيْنَيْهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلّا ما قُدِّرَ لَهُ) أخرجه الترمذي (2465).
عِبَادَ اللهِ: وَيُحَقِّقُ الإِخْلاصَ مَنْ جَرَّدَ نَفْسَهُ عَنْ حُظُوظِهَا، وَأَلْجَمَهَا بِلِجَامِ الطَّاعَةِ وَأَلانَهَا فَلانَتْ وَأَقَامَهَا فَاسْتَقَامَتْ حَتَّى تَصِيرَ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ عِبَادَةً للهِ بِالإِخْلاصِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فطوبى لمن صحّت له خطوةٌ واحدةٌ، لَمْ يُرِدْ بِهَا إلا وَجْهَ اللهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام: [162-163].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الإِخْلاصَ يُعَظِّمُ الْعَمَلَ الصَّغِيرَ حَتَّى يُصْبِحَ كَالْجَبَلِ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاءَ يُحَقِّرُ الْعَمَلَ الْكَبِيرَ حَتَى يَكُونَ كَالْهَشِيمِ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) الفرقان (23) وقال ﷺ: (مَن تعلَّمَ علمًا مِمّا يُبتَغى بِهِ وجهُ اللَّهِ، لا يَتعلَّمُهُ إلّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا منَ الدُّنيا، لم يجد عَرفَ الجنَّةِ) أخرجه أبو داود (3664) وابن ماجه (252) وأحمد (8457). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (الْعَمَلُ بِغَيْرِ إِخْلاصٍ وَلا اقْتِدَاءٍ كَمُسَافِرٍ يَمْلأُ جِرَابَهُ رَمْلًا يَنْقُلُهُ وَلا يَنْفَعُهُ) الفوائد (67).
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الإخلاصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَمُرَاقَبَتَكَ في السِّرِّ وَالْعَلنِ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ كُنْ لَهُ مُعِينًا وَنَصِيرًا وَمُؤَيِّدًا وَظَهِيرًا اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 25 /4/ 1447هـ