أمثال الدنيا

راكان المغربي
1447/04/24 - 2025/10/16 15:28PM

أمثال الدنيا

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أما بعد:

فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ كَانَ الصَّحَابِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَجْلِسُ مَعَ تَلَامِيذِهِ مِنَ التَّابِعِينَ، فَفَاجَأَهُمْ بِخَبَرٍ صَادِمٍ، وَمَعْلُومَةٍ غَرِيبَةٍ. قَالَ لَهُمْ: "أَنْتُمْ أَكْثَرُ صِيَامًا، وَأَكْثَرُ صَلَاةً، وَأَكْثَرُ اجْتِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ! فَقَالُوا: لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ".

هَذَا أَحَدُ أَسْرَارِ تَمَيُّزِ جِيلِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الدُّنْيَا، وَقِيمَةَ الْآخِرَةِ، وَيُدْرِكُونَ الْفَارِقَ الْهَائِلَ بَيْنَ بَينَهمَا، فَلِذَا كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ وَهُمُومُهُمْ وَأَحْلَامُهُمْ أَخْرَوِيَّةً لا دُنْيَوَيّةً.

عباد الله

لَقَدْ ضَرَبَ لَنَا الْوَحْيُ الْعَدِيدَ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي تُقَرِّبُ لَنَا فَهْمَ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا، لِنَعْرِفَ قِيمَتَهَا وَقَدْرَهَا مُقَارَنَةً بِالْآخِرَةِ.

فَمَثَلًا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

فَهُنَا شَبَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ حَالَ الدُّنْيَا بحَالِ الْغَيْثِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَرْتَوِي مِنْهُ الْأَرْضُ، لِتُنْبِتَ الزَّرْعَ الْجَمِيلَ، وَالنَّبَاتَ الْمُزْهِرَ. يزْدَانُ الْمَنْظَرُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَيُعْجِبُوا بِهِ. لَكِنَّهُ لَا يَلْبَثْ طَوِيلًا حَتَّى يَيْبَسَ وَيصْفَرَّ ثُمَّ يتَحَطَّمَ وَيتَكَسَّرَ.

هَكَذَا هِيَ الدُّنْيَا.. زِينَةٌ فَانِيَةٌ، وَبَهْجَةٌ زَائِلَةٌ، وَمَتَاعٌ غَيْرُ دَائِمٍ.

أَتَذْكُرُ ذَلِكَ الثَّوْبَ الْجَمِيلَ، الَّذِي اشْتَرَيْتَهُ قَبْلَ زَمَنٍ وَكَانَ يَنْصَعُ بِبَيَاضِهِ وَزَهْوِّهِ، وَكُنْتَ فَرِحًا مُبْتَهِجًا بِهِ؟

 أَخْبِرْنِي: كَيْفَ هُوَ حَالُهُ الْيَوْمَ؟ هَاجَ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ سَيَكُونُ حُطَامًا. وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ مَتَاعِ الدُّنْيَا: سَيَّارَتَكَ الْجَدِيدَةَ، وَأَثَاثَكَ الْحَدِيثَ، وَالْجَوَّالَ الَّذِي كَانَ آخِرَ إِصْدَارٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. كُلُّهَا مَرَّتْ أَوْ سَتَمُرُّ عَلَيْهَا الْمَرَاحِلُ الثَّلَاثَةُ (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا).

فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ؟ يُعَلِّقُونَ آمَالَهُمْ بِدُنْيَا فَانِيَةٍ؟ وَيَبِيعُونَ آخِرَتَهُمْ بِحُطَامٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؟

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

مَثَلٌ آخَرُ يُجَلِّي لَنَا قِيمَةَ الدُّنْيَا مُقَابِلَ الْآخِرَةِ، قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَمِ فَقَالَ: (واللَّهِ! ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟).

مَا رَأْيُكَ أَنْ تُجَرِّبَهَا يَوْمًا؟ تَذْهَبُ إِلَى الْبَحْرِ وَتَضَعُ إِصْبَعَكَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ تُخْرِجُهُ. انْظُرْ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَطْرَةِ أَوِ الْقَطْرَتَيْنِ فِي إِصْبَعِكَ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الْبَحْرِ الْهَائِلِ.

الْقَطْرَةُ هِيَ الدُّنْيَا، وَالْبَحْرُ الْخِضَمُّ هُوَ الْآخِرَةُ.

هَذِهِ الْقَطْرَةُ هِيَ الَّتِي يَتَخَاصَمُ مِنْ أَجْلِهَا الْأَرْحَامُ، وَتُسْفَكُ لِتَحْصِيلِهَا الدِّمَاءُ، وَتُهْتَكُ لِلظَّفَرِ بِهَا الْأَعْرَاضُ.

مَا بَالُ أَهْلِ الدُّنْيَا؟ كَيْفَ تَعْمَى أَبْصَارُهُمْ فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَحْرِ؟ كَيْفَ أَخطَأَتْ عُقُولُهُمْ فَاخْتَارُوا الْقَطْرَةَ الْحَقِيرَةَ، وَتَرَكُوا الْبَحْرَ الْعَمِيقَ؟ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)

يقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَثَلٍ آخَرَ: (لَوْ كَانَتِ الدنيا تَعْدِلُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، ما سَقَى كافرًا مِنْها شَرْبَةَ ماءٍ).

يَا تُرَى كَمْ هُوَ سِعْرُ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ فِي السُّوقِ؟

لَا شَيْءَ! كَذَلِكَ هِيَ قِيمَةُ الدُّنْيَا عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ. وَلِذَا فَإِذَا حُرِمْتَ بِجُزْءٍ مِنْ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ الْأَحَقُّ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ بالسُّوقِ، دَاخِلًا مِن بَعْضِ العَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ - أَيْ: مَقْطُوعِ الْأُذُنِ أَوْ صَغِيرِ الْأُذُنِ- مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فأخَذَ بأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بشَيءٍ، وَما نَصْنَعُ بهِ؟! قالَ: أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟ قالوا: وَاللَّهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكيفَ وَهو مَيِّتٌ؟! فَقالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللهِ مِن هذا علَيْكُم.

مَنْ يَفْقَهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ يَتَعَامَلُ مَعَ الدُّنْيَا بِالْقَدْرِ الْمُنَاسِبِ لِحَجْمِهَا وَقِيمَتِهَا، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي يَحْكِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذْ يَقُولُ: "نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً – أَيْ: فِرَاشًا أَنْعَمَ مِنْ هَذَا الْحَصِيرِ-. فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا".هَكَذَا كَانَ يَنْظُرُ الصَّالِحُونَ إِلَى الدُّنْيَا.

إِذَا سَلَكْتَ يَوْمًا طَرِيقَ سَفَرٍ تُرِيدُ وِجْهَةً مُعَيَّنَةً، ثُمَّ تَوَقَّفْتَ فِي مَحَطَّةٍ لِلتَّزَوُّدِ بِالْوَقُودِ. مَا هِيَ نَظْرَتُكَ لِهَذَا الْوُقُوفِ الْمُؤَقَّتِ؟ هَلْ سَيُنْسِيكَ وِجْهَتَكَ؟ هَلْ سَتَكُونُ هَذِهِ الْمَحَطَّةُ هِيَ مُبْتَغَاكَ وَأَمَلَكَ؟ الدُّنْيَا هِيَ الْمَحَطَّةُ الَّتِي تَتَزَوَّدُ بِهَا لِآخرَتِك، وَالوِجْهَةُ هيَ الْآخِرَةُ، هِيَ الْمُبْتَغَى وَالْمُنْتَهَى، والْأَمَلُ وَالْحُلْمُ.

دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْفَقَ عَلَى مَا يُعَانِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ وَشَظَفِ الْعَيْشِ حَتَّى بَكَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: "إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ!" "ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ علَى أُمَّتِكَ؛ فإنَّ فَارِسَ والرُّومَ وُسِّعَ عليهم، وأُعْطُوا الدُّنْيَا وهُمْ لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ"، وكانَ النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَقالَ: (أَوَفِي شَكٍّ أنْتَ يا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لهمْ طَيِّبَاتُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا) (أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ).

آخِرُ مَثَلٍ نَقِفُ مَعَهُ مِنْ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: (الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وجَنَّةُ الكافِرِ).

فَالدُّنْيَا كَالسِّجْنِ الْمُؤَقَّتِ لِلْمُؤْمِنِ، يَحْبِسُ فِيهِ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْمَلَذَّاتِ الضَّارَّةِ، فَيَصْبِرُ قَلِيلًا لِيَنَالَ فِي الْآخِرَةِ كَثِيرًا مَزِيدًا، فَيَذُوقَ كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ وَتَلَذُّ عَيْنُهُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ فَالدُّنْيَا كَالْجَنَّةِ يُشْبِعُ فِيهَا شَهَوَاتِهِ، فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، لَا يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ الْمَضَارَّ وَالْمَهَالِكَ، فَلَا يَحْسَبُ حِسَابًا لِغَدِهِ، وَلَا يُقَدِّمُ شَيْئًا لِمُسْتَقْبَلِهِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى الْآخِرَةِ، ذَاقَ أَصْنَافَ الْآلَامِ، وَأَنْوَاعَ الْعَذَابِ.

فَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ كِلَاهُمَا سَيَدْخُلُ السِّجْنَ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ سَيَكُونُ فِيهِ كَقَدْرِ عَشِيَّةٍ أَوْ ضُحَاهَا، وَالْكَافِرَ سَيَكُونُ فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا أَبَدًا.

(فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ

إِنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا لَا يَعْنِي الْعُزْلَةَ عَنِ الْحَيَاةِ، وَلَا تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى النَّفْسِ. وَلَكِنَّهُ يَعْنِي -بِبَسَاطَةٍ- أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا زَهِيدَةً رَخِيصَةً فِي قَلْبِكَ. تَزْهَدُ فِيهَا كَمَا تَزْهَدُ فِي تِلْكَ الْحَلْوَى الَّتِي تَشْتَرِيهَا مِنَ السُّوقِ بِرِيَالٍ أَوْ رِيَالَيْنِ. إِنْ حَظِيتَ بِهَا تَسْتَمْتِعُ بِطَعْمِهَا اللَّذِيذِ، وَإِنْ سَقَطَتْ مِنْكَ فَضَاعَتْ عَلَيْكَ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيكَ شَيْئًا. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّكَ تَعْرِفُ قِيمَتَهَا الزَّهِيدَةَ.

بِعَكْسِ ذَلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَنْضُجْ عَقْلُهُ، فَإِذَا ضَاعَتْ مِنْهُ الْحَلْوَى الرَّخِيصَةُ ضَجَّ بِالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ، لِأَنَّهُ بِضَعْفِ عَقْلِهِ يَرَاهَا أَثْمَنَ الْأَشْيَاءِ. وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الدُّنْيَا يَظُنُّونَهَا ثَمِينَةً وَهِيَ حَقِيرَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ. لِذَا أَمَرَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ بِإِعْمَالِ الْعَقْلِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أَيْ: فِي الْعَذَابِ.

هَذَا هُوَ مَعْنَى تَعْرِيفِ الزُّهْدِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ، فَيَقُولُونَ أَنَّ الزُّهْدَ هُوَ: "اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا وَاحْتِقَارُهَا"، وَهُوَ "أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا فِي يَدِكَ لَا فِي قَلْبِكَ".

أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)

 

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا إِلَى النَّارِ مَصِيرَنَا.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

المرفقات

1760617699_أمثال الدنيا.docx

1760617699_أمثال الدنيا.pdf

المشاهدات 493 | التعليقات 0