أنتَ مع أنت

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/05/29 - 2025/11/20 16:09PM

                                          أنتَ مع أنت

الحمدُ للهِ المُطَّلِعِ على السَّريرةِ، الذي لا يخفى عليه من أمرِها شيءٌ ولو كان مِثقالَ ذَرَّةٍ أو وَزْنَ شَعيرةٍ، والذي جعل الإنسانَ على نَفْسِهِ بَصيرَةً، ولو ألقى مَعاذيرَهُ.

والصلاةُ والسلامُ على ذي الفضائلِ الكثيرةِ، والمحامدِ الشهيرةِ، صلاةً وسلامًا تكونُ لنا في دَياجيرِ الظُّلُماتِ كالشَّمسِ المُنيرةِ.

 

أيُّها الناسُ، مَن أراد أن يكونَ مِن أولياءِ اللهِ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزَنون، فعليه بتقوى الله.

قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَولِياءَ اللَّهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ ۝ الَّذينَ آمَنوا وَكانوا يَتَّقونَ﴾.

 

وبعدُ أيُّها الكِرامُ: أولى الإسلامُ الضميرَ والوجدانَ عنايةً فائقةً، وعوّل عليه كثيرًا، فهو الذي إذا سَلِمَ مِن التَّعصّبِ والهوى؛ الناصحُ الذي لا يَغِشُّ، والصادقُ الذي لا يَكذِبُ.

ولذلك جُعِلَ من دلائلِ معرفةِ الحقِّ من الباطل، ومعاييرِ معرفةِ الصوابِ من الخطأ.

 

وقد أحالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، في موعظتِهِ للمشركين، التي أمرهم فيها أن يُسائلوا أنفسَهم بعيدًا عن سطوةِ العقلِ الجماعي، عمّا هو الجنونُ الذي أصابَ محمدًا، وهو صاحبُكم الذي عرفتُموه قبلُ بالصِّدقِ والأمانةِ؟!

قال تعالى: ﴿قُل إِنَّما أَعِظُكُم بِواحِدَةٍ أَن تَقوموا لِلَّهِ مَثنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّروا ما بِصاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِن هُوَ إِلّا نَذيرٌ لَكُم بَينَ يَدَي عَذابٍ شَديدٍ﴾.

 

ونحن بدورِنا، تَأسّيًا بالقرآنِ، وعملاً بإرشاداتِهِ التي تُستصلَحُ بها النفوسُ، وتُحَلُّ بها المعضِلاتُ، نُحيلُ على الضميرِ في مسائلَ وقضايا يَكثُرُ جدالُ الناسِ وخِصامُهم فيها.

من قبيلِ مسائلِ العقودِ المشبوهةِ في النكاح، أو المعاملاتِ الماليةِ المصرفيةِ، أو مسألةِ سماعِ الغناءِ والطَّربِ، أو قضايا حجابِ المرأةِ وكَشفِها لوجهِها، وغيرِ ذلك كثيرٌ.

 

وهي من المسائلِ التي للرِّجالِ والنساءِ فيها هوىً وشهوةٌ، فيخوضون فيها غِمارَ الجدلِ، لعلّهم يجدون لأهوائِهم مُستندًا شرعيًّا، يُمكّنُهم مِن ممارسةِ ما يرغبون دون شعورٍ بالخطأ والذَّنب.

فإذا بمجالسِنا ومنتدياتِنا فريقانِ يَختصِمان: ما بين مُحرِّمٍ ومُبيحٍ، ومُشدِّدٍ ومُيَسِّرٍ!

وكلُّ فريقٍ يتهيّأ لهذه الحواراتِ—وإن شئتَ فقل المَعارك—بما استطاع من أدلّةٍ ونظريّاتٍ وأقوالٍ ومذاهبَ، ليُدعّمَ بها قولَهُ وموقفَهُ.

 

ونحن—كما أشرتُ—سنضرِبُ عن هذه المنتدياتِ صَفحًا، ونُغلِقُ دونَها الأسماعَ، ونَنقُلُ الحوارَ منها إلى دواخلِنا ونفوسِنا وضمائرِنا!

إلى تلك البُقعةِ من النفسِ التي يَنقَطِعُ فيها ضجيجُ وصخبُ الحواراتِ، وتَنطفِئُ فيها مكامنُ الشهواتِ، وتَخبُو فيها رغبةُ الانتصارِ للذاتِ.

هناك حيثُ الفِطرةُ الصافيةُ النقيّةُ، المُجرَّدةُ من موانعِ قَبولِ الحقِّ والانصياعِ له.

هناك حيثُ لا أحدَ سِواك: أنتَ معَ أنتَ؛ أنتَ في مواجهةِ نفسِكَ وضميرِكَ وقلبِكَ، لا ثالثَ لَكُما يسمعُ ويرى إلّا اللهُ.

 

في تلك البقعةِ مِن النفس، ستكتشفُ أن حواراتِك مع الناسِ، حواراتٌ مِن أجلِ ذاتِك التي تَمترستْ حولها، فلم ترغبْ لها أن تضعُف أمام المحاوِرين، أو تتخلّى عن رأيِها، أو تعترفَ بخطئِها؛ فلم يكن يعنيكَ الصوابُ بقدرِ ما تعنيكَ نفسُكَ.

لذلك تَكثُرُ نقاشاتُنا وتستمرُّ دون توقّفٍ أو ثمرةٍ.

 

أمّا حديثُكَ مع نفسِكَ، فيمتازُ بالصِّدقِ والوضوحِ؛ فالذي يعنيكَ هو الحقُّ، فلا أحدَ هناك تُغالِبُهُ أو تَخشاهُ أو تُجاريهِ وتُجامِلُه.

ولذلك يسهُلُ الاعترافُ بالخطأ دون خجلٍ أو تردّدٍ.

 

وكذلك يمتازُ بأن أدواتِ الحوارِ فيه مختلفةٌ؛ فتغيبُ الأقوالُ والنظريّاتُ والمذاهبُ والأدلّةُ، وتحضُرُ الأسئلةُ الوجدانيةُ الشعوريةُ والسلوكيةُ، من قبيل:

هل أنا أعتقدُ حقًّا بأنَّ هذا الفعلَ أو ذاك صحيحٌ؟!

وهل هذا السلوكُ يُقرّبني مِن اللهِ أو يُبعِدُني عنه؟!

وهل القضيةُ لديَّ قضيةٌ فقهيةٌ صِرفةٌ أبحثُ فيها بكلِّ تجرُّدٍ عن القولِ الراجحِ الذي أَدِينُ اللهَ به؟!

أم أنا فقط أبحثُ عن مُستندٍ شرعيٍّ لما ترغبُ نفسي وهوايَ في فعله؟!

أم أبحثُ عن مُستندٍ ودليلٍ أَنتصِرُ به لمذهبي وطائفتِي؟!

 

وحتى لو كنتَ مِن المانعين، فهذا لا يُعفيكَ من مساءلةِ نفسِكَ؛ فللنُّفوسِ في المنعِ والتشديدِ هوًى، كما لها في الجوازِ والتسهيلِ هوًى.

 

وهذا النوعُ من الحديثِ مع النفس، هو المعيارُ الذي أرشدَ إليه النبيُّ ﷺ لمعرفةِ الحقِّ في مثلِ هذا النوع من المسائلِ التي يَشتَبِهُ فيها الأمرُ.

فقد جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمامُ مسلمٌ عن النَّواسِ بنِ سمعانَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «الْبِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ ما حاكَ في نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».

وأيضًا في الحديثِ الآخر الذي رواه الإمامُ أحمدُ عن وابِصةَ بنِ مَعبدٍ رضي الله عنه قال: أتيتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقال: «جِئْتَ تَسألُ عنِ البِرِّ؟» قلتُ: نعم.

فقال: «استَفْتِ قلبَكَ، البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإنْ أفتاكَ النّاسُ وأفتَوْكَ».

 

وإذا خَلُصتَ في حديثِكَ مع نفسِكَ بنتيجةٍ مفادُها أن ما تقومُ به خطأٌ، أو ما تقولُه باطلٌ؛ فلن يَنفَعُكَ على الإطلاق أن تكونَ بارعًا في حِجاجِك وبيانِك، وتُقنِعَ الناسَ بأنك محقٌّ أو مُصيبٌ؛ لأن الناسَ لن يقفوا معكَ بين يدي اللهِ، فكلٌّ منّا سيأتيه يومَ القيامةِ فَرْدًا.

 

حينها عليكَ أن تُشغِلَ نفسَكَ بإصلاحِ خطئِكَ، واستغفارِ ربِّكَ، أو على الأقلِّ ممارسةِ ما ترغبُ في ممارستِهِ مع الإقرارِ بذنبِكَ؛ فإن ذلك أَدعَى أن يَغفِرَهُ اللهُ لك.

قال تعالى: ﴿وَآخَرونَ اعتَرَفوا بِذُنوبِهِم خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾.

 

أقولُ قولي هذا…

 

الثانية:

وبعدُ،

اعلَمْ—رَحِمَكَ اللهُ—أنَّ مُكاشَفَةَ النَّفسِ بصِدقٍ، مِن أنفَعِ الوسائلِ وأقرَبِ الطُّرُقِ لمعرفةِ عُيوبِ النَّفسِ واستصلاحِها، وتزكيتِها والارتقاءِ بها.

 

وليس تحكيمُ الضميرِ حِكرًا على ما ذكرنا مِن مسائلَ وقضايا؛ فينبغي لكلِّ عاقلٍ أن يَزِنَ كلَّ أعمالِهِ ومواقِفِهِ بميزانِ الضميرِ الحيِّ، والوجدانِ اليَقِظِ.

سواءٌ كانت قضايا دينيةً، أو اجتماعيةً، أو سياسيةً، أو اقتصاديةً، أو ثقافيةً.

وأن يجعلَ لنفسهِ من نفسِهِ حَكَمًا وميزانًا، بعيدًا عن التَّعصُّباتِ والاصطفافاتِ وصَخَبِ المناقشاتِ.

 

فالضميرُ الحيُّ لا يستطيعُ صاحبُه خِداعَهُ، فهو أمامَهُ بلا أقنِعةٍ كالتي يرتديها أمامَ الناسِ، ولا تُجدي معه التبريراتُ، ولا تَنطلي عليه الأدوارُ المزَيَّفةُ التي يَتقمَّصُها المرءُ كالباحثِ عن الحقِّ والذَّابِّ عنه.

 

وإني وَجَدتُ الضميرَ سَريرةً

إذا صَفَتْ أصبحتْ للمَرءِ مِرآهْ

 

وأخيرًا، فإنَّ الحديثَ مع النفسِ يُساهِمُ في تقليصِ حواراتِنا الكثيرةِ التي لا طائلَ مِن ورائِها، والتي ابتُلِينَا بها، وعمَّقَتْ مِن مشاكلِنا وتخلُّفِنا عن الرَّكبِ.

فإنَّ الجَدَلَ في كلِّ أُمَّةٍ إنما يَتمدَّدُ على حسابِ العملِ؛ فإن رأيتَ جدلًا كثيرًا فاعلَم أنَّ وراءَهُ عملًا قليلًا.

فإنَّ الأُممَ المُنتِجةَ لا وقتَ لدى أبنائِها للمُهاتراتِ وتوزيعِ الاتهاماتِ.

 

وصدَقَ رسولُ اللهِ ﷺ حين قال:

«ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أُوتُوا الجَدَلَ».

 

هذا، وصلُّوا وسلِّموا …

 

 

المرفقات

1763644162_أنت مع أنت ( وورد).docx

1763644168_أنت مع أنت ( PDF).pdf

المشاهدات 731 | التعليقات 1

ما شاء الله تبارك الرحمن

فتح الله عليك