إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ 

عبد الله بن علي الطريف
1447/03/11 - 2025/09/03 17:57PM

إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ 1447/3/13ِهـ

أيها الإخوة: يقولُ الحقُ تباركَ وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا). [الإسراء:70] فمن كرمِ اللهِ تعالى وإحسانِه الذي لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ إكرامُه لبني آدم َبجميعِ وجوه الإكرامِ، فكرَّمَهم بالعلمِ والعقلِ وإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ، وجعل منهم الأولياءَ والأصفياءَ وأنعَمَ عليهم بالنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ.. وخَصَّهم بمناقبَ وفضلَهم بفضائل ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات.. وشرعَ لنا إكرامَ بعضِنا لبعضٍ، وأكدَ على مزيد الإكرام للكبير والعنايةِ به، وأمرَ بحُسْنِ رعايتِه واحترامِه كائنًا مَنْ كان، معروفًا أو غيرَ معروف، وأعظمُ الكبارِ حقًا الوالدان.. يقولُ تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24]. فأولُ مرتبةٍ من مراتبِ الإحسانِ إليهما حُسنُ الحديثِ معهما بألا يَنِدَ من الولدِ ما يدلُ على الضَجَرِ والضِيقِ، وما يَشِي بالإهانةِ وسوءِ الأدبِ.. ثم أكدَ تعالى على حُسنِ العنايةِ بحديثِهما بقوله (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) ذلك أن لين القول يوحي باللطف، ويدخل على نفس المخاطبِ الراحةَ والبهجةَ.. وحثَّ على ذلك رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَيه فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا وَلَقَدْ تَرَكْتُهُمَا يَبْكِيَانِ قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ، أَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَهُ. رواه أبو داود وغيره مجموع من ألفاظ متعددة، ورواه أبو داود والنسائي وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وصححه الألباني.

أيها الأحبة: وتوقيرُ الكبارِ عمومًا من سُننِ الإسلامِ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» رواه أحمد فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ[عا1] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وصححه الأرنؤوط..

وجعلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- للشيبِ قيمةً عظيمة، وأجراً كبيراً؛ لذلك «نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ» وَقَالَ: «هُوَ نُورُ المُسْلِمِ» رواه الترمذي وصححه الألباني. وَقَالَ: «مَا شَابَ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ شَيْبَةً، إِلَّا مُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَكُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ» رواه أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وقال الألباني صحيح لغيره. ومن تكريم الإسلام للكبار أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- جعل تكريمَهم من إجلالِ اللهِ تعالى وتعظيمِه، فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ [أَيْ: تَبْجِيله وَتَعْظِيمه] إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ [أَيْ: تَعْظِيمُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَام، بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِكَ.] وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [العَادِلِ]. رواه أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ   رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني.. وكان رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-  يُقَدِمُ الكبيرَ في الحديثِ ويسمعُ منه؛ فقد انْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ [أي أصغرهم] فَقَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ السِّنَّ، فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ. رواه البخاري.

وَالسُنَةُ تَقْدِيمُ الأَكْبَرِ فِي إِعْطَاءِ الشَيءِ قَالَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- في حَدِيثِ الرُؤيَا: «أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا» رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا    قال شيخنا محمد العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- معلقاً على هذا الحديث: ومن ذلك إذا قدمت الطعام مثلًا أو القهوة أو الشاي فلا تبدأ باليمين، بل ابدأ بالأكبر الذي أمامك؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-  لما أراد أن يُعطي السواكَ الأصغر قيلَ له كبّر، ومعلومٌ أنه لو كان الأصغرُ هو الأيسر لا يَذهبُ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-  يعطيه إياه، فالظاهرُ أنه أعطى الأيمنَ من أجلِ التيامنِ، لكن قيل له كَبِّر: يعني أَعْطِهِ الأكبرَ، فهذا إذا كان الناسُ أمامَك تبدأُ بالكبيرِ، لا تبدأُ باليمينِ، أما إذا كانوا جالسين عن اليمينِ وعن الشمالِ فَابْدَأ باليمين. أ.هـ  وقال المهلب: تقديمُ ذي السنِ أولى في كُلِ شيءٍ ما لم يترتبْ القومُ في الجلوسِ، فإذا ترتبوا فالسنةُ تقديمُ الأيمنِ فالأيمن من الرئيسِ أو العالمِ، على ما جاء في حديثِ شُربِ اللبن.

أيها الإخوة: ولم يقتصرْ الإسلام بِحَثِهِ على احترامِ الكبير المسلم فقط، بل شمل غير المسلم برعايته طالما أنه يعيشُ بين المسلمين، فَعَن أبي بكرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِبَابِ قَوْمٍ وَعَلَيْهِ سَائِلٌ يَسْأَلُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَضَرَبَ عَضُدَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَالَ: مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَهُودِيٌّ. قَالَ: فَمَا أَلْجَأَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ قَالَ: أَسْأَلُ الْجِزْيَةَ وَالْحَاجَةَ وَالسِّنَّ. قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَضَخَ لَهُ بِشَيْء مِنَ الْمَنْزِلِ [أَي أعطَاهُ شَيْئا لَيْسَ بالكثير من بيته]، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَازِنِ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: انْظُرْ هَذَا وَضُرَبَاءَهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا أَنْصَفْنَاهُ أَن أكلنَا شَبِيْبَتَهُ ثُمَّ نَخُذُلُهُ عِنْدَ الْهَرَمِ "إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين"، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا مِنَ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ وَعَنْ ضُرَبَائِهِ. قَالَ: قَالَ أَبُو بكرَة: أَنَا شَهِدْتُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَرَأَيْتُ ذَلِكَ الشَّيْخَ.. ذكره الإمامُ أبو يوسف في كتابه الخراج.

وكانَ الاهتمامُ بالكبارِ من غير المسلمين منهجًا مُتبعًا عند خلفاءِ المسلمين، فهذا الخليفةُ الراشدُ عمرُ بنُ عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ- جعل َكفَالةَ الطاعنين في السنِ من الذميين نظامًا مفروضًا على ولاته.. ذكر نص كتابه ابنِ زنجويه في كتاب الأموالِ..  

وبعد: أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟! حقٌ علينا أن نُعَلَّمَ هذه القِيمَ والأخلاقَ للأجيالِ، وننشُرَها للعالمِ كُلِه؛ ففيها التآلف، والتراحم، والراحة، والحب.. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ومن المعاني العظيمةِ والآدابِ الجليلةِ التي أولاها الإسلامُ جلَ الاهتمام احترامُ الصغير للكبير، وقد جعل لهذا الأدبِ ضوابطَ كثيرة منها ما أشارت له السنةُ، أو أرشدَ لها رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-أصحابَه عند الحاجة له بالإيماء، فقد جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، [أي في المجلس] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» رواه الترمذي وأحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.

أيها الإخوة: ومن مظاهر تربية الصغير على احترام الكبير -سواء كان من الكبار أو من هو أكبر منه- تدريبُه على ألا يرفعَ صوتَه عند مخاطبة الكبير أو الحديث معه.. وألا تكون لهجتُه مع الكبير في الحديث لهجةً غاضبةً، أو يشوبُها استهزاءٌ، أو تعالٍ أو تكبّرٌ..

وعلينا أيها الإخوة: أن نحثَّ الصغارَ على مجالسة ِكبارِ السنِ، ومشورتِهم والاستماعِ لنصائحِهم بإصغاء، وعدمِ الانشغالِ عنهم بجوالٍ أو غيره.. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «الْبَرَكَةُ ‌مَعَ ‌أَكَابِرِكُمْ» رواه ابن حبان والحاكم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وصححه الألباني. ومن احترامِ الكبيرِ إحسانُ الجلسةِ بحضرتِه، فلا يمدُ بين أيديه رِجْلاً ولا يُولِيْه ظَهراً في الجلوسِ، وغيرِه من مكارمِ الأخلاق.. وينبغي اصطحابُ الصغارِ عند رعايةِ الكبارِ وزيارتِهم؛ لغرسِ هذه الأخلاقِ النبيلةِ لديهم.. وصلوا وسلموا..

قناة الاستقرام

https://t.me/+iSRXA4HV_oFmMDc0

 



المشاهدات 340 | التعليقات 0