ازهد تسعد
د. سلطان بن حباب الجعيد
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صاحبُ الوجهِ الأنورِ، والجبينِ الأزهرِ، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أُوصيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسيَ بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فمَنِ اتقى اللهَ، أفلحَ ونجا.
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصبِروا وَصابِروا وَرابِطوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠].
وبعد:
علينا ـ معشرَ الإخوةِ ـ أن نتتبَّعَ أسبابَ الحزنِ من حينٍ إلى آخرَ، ونعالجَها ونقضيَ عليها إنِ استطعنا، أو نخفِّفَ من غلوائِها على أقلِّ تقديرٍ؛ حتى ننعَمَ في دنيانا بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من السعادةِ.
ومن أسبابِ الحزنِ الكبرى، التي مُنِيَ بها كثيرٌ من الناسِ: تعظيمُ أمرِ الدنيا في القلوبِ؛ فإنَّ الدنيا كلما عظُمَتْ في نفسِ المؤمنِ، عظُمَ معها حزنُه وألمُه، فحزنُ المؤمنِ وألمُه بقدْرِ حجمِ الدنيا في قلبِه.
فتعظيمُ الدنيا في حقيقتِه تعظيمٌ للألمِ والحزنِ؛ لأنَّ الدنيا لا تنفكُّ عنهما، فقد طُبِعَتْ على الكدرِ، فتعظيمُها إذًا هو الأساسُ لتفاقمِ الأحزانِ ومضاعفتِها.
وهذا يقودُنا إلى فهْمِ النصوصِ التي تكشفُ عن حقارةِ الدنيا مقارنةً بالآخرةِ، وتدعُو إلى الزهدِ فيها والتقلُّلِ منها، بأنَّها تُعالِجُ سببًا عظيمًا من أسبابِ الحزنِ.
من مثلِ قولِهِ تعالى: ﴿اللَّهُ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ وَفَرِحوا بِالحَياةِ الدُّنيا وَمَا الحَياةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا مَتاعٌ﴾ [الرعد: ٢٦].
وقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنيا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرورُ﴾ [فاطر: ٥].
وقولِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «لو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ، ما سَقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ». [أخرجه الترمذي وابن ماجه].
فالزهدُ، الذي في ظاهرِهِ تَقَلُّلٌ من متاعِ الدنيا وزخرفِها، هو في حقيقتِهِ فلسفةٌ عجيبةٌ وعميقةٌ للسعادةِ؛ لأنَّ الدنيا في نفسِ الزاهدِ تَصغُر، فتصغُرُ معها مصائبُها وأحزانُها وآمالُها وطموحاتُها.
وليس المقصودُ بالزهدِ هنا التلبُّسَ بمظاهرِهِ الخارجيَّة، من لباسٍ ومسكَنٍ ومركَبٍ متواضعٍ، والقلبُ قد أُشرِبَ حبَّ الدنيا، بل الزهدُ المقصودُ هو ذلك الشعورُ الوجدانيُّ العميقُ داخلَ القلبِ بعدمِ قيمةِ الدنيا.
ومردُّ ذلك أنَّ الزاهدَ تَحرَّرَ من أسرِ الدنيا، ولم يعُد عبدًا لها، ولا شكَّ أنَّ الحريَّةَ فضاءٌ رَحبٌ، يمتلكُ الإنسانُ فيه كاملَ إرادتِهِ، ويكونُ سيِّدًا لا مَسُودًا، ومالكًا للدنيا لا مملوكًا لها، وأنَّى للمملوكِ أن ينال من سيِّدِه أو يُصيب منه!
ومما يزيدُ الأمرَ وضوحًا، في أنَّ الزهدَ من روافدِ العيشِ الطيِّبِ: أنَّ الزاهدَ تَحرَّرَ من الخوفِ، فهو يعملُ بالأسبابِ، ويخوضُ غِمارَ الحياةِ الدنيا، ويُواجِهُ التحدياتِ، ويقصِدُ إلى آمالِهِ وطموحاتِهِ، بقلبٍ قد خلا من التعلُّقِ بالنتائجِ؛ فهي لا تعنيه، وحصولُها وعدمُ حصولِها عنده في مرتبةٍ واحدةٍ.
عبَّرَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه عن هذا المقامِ الرفيعِ، وهو أحدُ مَن ارتقاهُ وبلغهُ: “الغنى والفقرُ مطيَّتان، لا أُبالي أيَّهُما ركِبتُ.”
ثم إنَّ الزاهدَ، قد تَحرَّرَ من الأحزانِ، عند وقوعِ ما يكرهُ، إذا جاءت الأمورُ على غيرِ مرادِه؛ لأنَّ الدنيا عند الزاهدِ بأسرِها لا تساوي شيئًا، فكيف بشيءٍ يسيرٍ قد فاتَ منها؟!
وهو كذلك، قد تَحرَّرَ من البَطَرِ والفَرَحِ إذا أصابَ من الدنيا ما أصابَ، وأثمرتْ أسبابُهُ وأعمالُه، ونجحَ في بلوغِ مرادِه. فلسانُ حالِهِ: علامَ الفرحُ؟! إنما هي دنيا عما قريبٌ تَقشَعُ.
فها هو الزهدُ ـ كما سمعتم ـ قد حرَّرَ الزاهدَ من آفةِ الخوفِ والحزنِ والبَطَرِ، وهي الآفاتُ التي إذا أُصيبَ بها قلبُ إنسانٍ، مزَّقتْه الأحزانُ والتعاسةُ، وكيف لا يكونُ تعيسًا، وقد أصابَ من دعوةِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامِ ما أصابَ، حين قال:
“تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انْتَقَشَ”.
وإذا سَلِمَ من هذه الآفاتِ، تعالى على الدنيا بأسرِها، فلا فَرحُها يستحقُّ، ولا حزنُها يستحقُّ.
ومن أعظمِ نماذجِ الزاهدينَ، الذين سَلِموا بزهدِهم من كلِّ هذه الآفاتِ، وتَعالَوا على الدنيا وحُطامِها وفرَحِها وحزنِها، فلا طريقَ لها إلى قلوبِهم، فسَلِموا بذلك من الأكدارِ والأحزانِ، وعاشوا أحرارًا من أسرِ الدنيا، فملكوها ولم تملكهم: نبينا وسيِّدُنا محمدٌ عليه الصلاةُ والسلامُ، وصحبُهُ الغُرُّ الميامينُ رضي الله عنهم وأرضاهم.
فقد وُصِفَ عليه الصلاة والسلام: بأنه “يغلبُ فلا يبْطَر، ويُغلَبُ فلا يضجر.”
وقال زُهيرٌ مادحًا إيَّاهُ وصَحبَه:
لا يَفرَحونَ إذا نالتْ سُيوفُهمُ
قَومًا، وليسوا مُجازيعًا إذا نِيلوا.
أقولُ قولي هذا …
⸻
الثانية:
وبعد:
أيها الإخوةُ الكرامُ، الناظرُ في أحوالِنا، يجدْ أنَّ حبَّ الدنيا أنهكنا، وجلبَ علينا كثيرًا من الهمومِ والأحزانِ.
فطغَتِ المادياتُ والكمالياتُ والتنافسُ فيها، فأصبحتْ سعادةُ الواحدِ منَّا مرهونةً بمقدارِ ما يَحوزُ من هذه الدنيا، ثم هو مهما حازَ لا يَرضى، فعينُهُ مُمتدَّةٌ إلى ما في يَدِ غيرِه، ثم يرجعُ بصرُه بكلِّ ذلك حسراتٍ على قلبِه، فألمُهُ وحزنُهُ بقدْرِ ما يُشاهِدُ ويتمنَّى.
فلنَرفقْ بأنفسِنا، ولنُذكِّرْها بحقيقةِ هذه الدارِ، التي لا تساوي عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ، وعمَّا قريبٍ سيُغادِرُها الجميعُ، تاركينَ وراءَهم كلَّ شيءٍ:
﴿وَلَقَد جِئتُمونا فُرادى كَما خَلَقناكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكتُم ما خَوَّلناكُم وَراءَ ظُهورِكُم﴾ [الأنعام: ٩٤].
هذا كلُّه ـ معشرَ الإخوةِ ـ نتائجُ حبِّ الدنيا على مستوى الأفرادِ، أما على مستوى الأمَّةِ، فإنَّ نتائجَ حبِّ الدنيا كارثيَّةٌ؛ فهو يجعلُها في وهْنٍ وضعفٍ، ويُسلِّطُ عليها الأعداءَ، لأنَّه لا رغبةَ لها في مقاومتِهم، حتى لا تخسرَ دُنياها.
قال صلى الله عليه وسلم:
“يُوشِكُ الأُممُ أنْ تَداعَى عليكم كما تَداعَى الأكَلَةُ إلى قَصعتِها.” قالوا: أوَ مِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ يا رسولَ الله؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهْنَ.” قالوا: وما الوَهْنُ؟ قال: “حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ”. [أخرجه أبو داود].
أيها الأخُ المباركُ، كلُّ كَلْمٍ في قلبِك، فهو من سهامِ الدنيا، فاحْطُ هذا القلبَ بالزهدِ فيها، حتى تتَّقيَ هذه السهامَ، فتعيشَ في سلامٍ ووئامٍ.
وزبدةُ القولِ، وخاتمتُه، ومُختصرُه: أقولُ لك: ازهدْ، تَسْعَدْ.
اللهم اجعلنا من عبادِك الزاهدين، وأنزلِ الدنيا من قلوبِنا منزلتَها الحقيقيَّة …
المرفقات
1752834846_1752764306_ازهد تسعد.docx