استغلال الإجازة

محمد بن عبدالله التميمي
1447/01/22 - 2025/07/17 10:00AM

 

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا عَظِيمًا عَلِيًّا، جَبَّارًا قَهَّارًا قَادِرًا قَوِيًّا، رَفَعَ سَقْفَ السَّمَاءِ بِصَنْعَتِهِ فَاسْتَوَى مَبْنِيًّا، وَسَطَحَ الْمِهَادَ بِقُدْرَتِهِ وَسَقَاهُ فأَخْرَجَ صُنُوفَ النَّبَاتِ فَكَسَاه زِيًّا، قَسَمَ الخلائقَ سعيداً وشقيًّا، وقسم الرِّزْقَ بَيْنَهُمْ فَتَرَى فَقِيرًا وَغَنِيًّا. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً ترفعُ صاحبَها في الجنات عَلِيًّا، وتُجَنِّبُ قائلها غَيًّا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وأفضل مَنْ بُعِثَ رسولًا نبيًّا، وهدى وبصَّر أمَّتَه سبيلًا سويًّا، صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى صَحبِهِ الـمُكْرَمِينَ مَنْزِلًا رَضِيًّا، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فَاتَّقُوا الله بِفعل مَا أمَرَكُم بِهِ، وَتركِ مَا نَهَاكُم عَنهُ، وإدامةِ الذّكر لَهُ، واستشعار الخشية مِنْه.

عباد الله.. إنَّ القلوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ، فَبَعْدَ العَنَاءِ والتَّعَب، والجُهْدِ والنَّصَب، تَمِيْلُ النُّفُوسُ إلى التَّجْدِيْدِ والتَّنْوِيْع، واللَّهْوِ والتَّرْوِيْح؛ دَفْعًا للكَآبَة، ورَفْعًا للسَّآمَة، والطالبُ يحتاج لذلك كي يعودَ إلى مَقاعِدِ الدِّرَاسَةِ بِهِمَّةٍ وقَّادَة، والموظف إلى عَمَلِهِ بِعَزِيْمَةٍ وَثَّابَة؛ فالإجازةُ تجديدٌ لنشاطِ العاملِ وحَرَكَتِه، وصَفَاءٌ لذِهْنِه، حتى لا يصاب بالخمول والركود، يقول صلى الله عليه وسلم لحنظلةَ رضي الله عنه: "يا حنظلة ساعةٌ وساعة" رواه مسلم. ويقول عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: "رَوِّحُوا القلوبَ ساعةً بعد ساعة، فإنَّ القلبَ إذا أُكْرِهَ عَمِي" ويقول: "فابْتَغُوا لها طَرَائِفَ الحِكَم". ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجم قلبي باللهو المباح ليكون أقوى لِيْ على الحق ".

فكانَ الصحابةُ يُرَوِّحُونَ عن أَنْفُسِهِم، وإذا جَدَّ الجِدُّ كانوا هم الرجال، قال بلالُ بنُ سَعْدٍ -رحمه الله تعالى-: "أدركت أقواماً يَشْتَدُّونَ بين الأغراض -أي: التي تُرمى-، يَضْحَكُ بعضُهم إلى بعض، فإذا كان الليلُ كانوا رهبانا".

فتَروِيْحُهُمْ وضَحِكُهُم لا يُضْعِفُ إِيْمَانَهُمْ، ولا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُم، قال عمرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه-: " كان القومُ يَضحَكُون، والإيمانُ في قلوبهم أَرسَى من الجِبَال".

فلا يتعدى وقتُ الترويح عند عباد الله على حق الله، وإنَّ الذين يُرَوِّحُون عن أنفسِهم بالسهر في ليل طويل، وسَمَرٍ فارغٍ هزيل، يُخِلُّون بِحُقوقٍ كثيرة، أعظمها حقُّ الله في القيام بفريضة الصلاة، وإياك إياك عبدَالله أن تفَرّط في الصلاة، فإنَّه قد تعلقَ بها واجبات، من أدائها جماعةً في المسجد وفي الأوقات، فإنْ كانْ تضييعٌ منك للجماعة وتلك خطيئة، فلا تُخرجْها عن وقتها فتلك جريمة. قَالَ ربُّنا جلَّ في عُلاه: ﴿فخَلَفَ مِنْ بعدهمْ خَلْفٌ أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوف يلقون غيًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما: "لَيْسَ معنى أضاعوها تركوها بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِن أَخَّرُوهَا عَن أَوْقَاتهَا" وقَالَ الله تَعَالَى: ﴿فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون﴾ أَي: غافلون عَنْهَا متهاونون بهَا.

ومن الحقوق التي يُضيِّعُها الذين يسهرون: حقُّ النفسِ في التَّعَلُّم، وحقُّ الجِسِم، فالسهَرُ يُوهِنُ البدن، ويُضعِفُ الفكر، ويُضيعُ العمُر، فإنَّه يستعيضُ عن نوم النهار اليسير بنومٍ في النهار كثير، وليس يُغني.

ومن الحقوق التي تضَيعُ أو تَضْعُفُ بالسَّهَر: حقُّ الوالدَين -خدمةً لهما وتعَلُّمًا منهما وإدخال الأنس عليهما بمجالَسَتهما-.

ومَن ابْتُلِيَ به فلا يُخْل ساعة من ذِكْرٍ لله ودعاء، فلله في كُلِّ ليلَةٍ ساعة إجابة -رواه مسلم-، وآخرُ الليلِ وقتُ التَّنَزُّلِ الإلَهِي كما في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ".

فلا تَكُن ممَّنْ يَشهَدُ وقتَ الربحِ سَهرانًا ويكونُ خَسرانًا.

أيها الطلابُ النُّجباء.. يَتَوَالى مُرُورُ أَيَّامِ الإِجَازَةِ يَومًا بَعدَ يَومٍ، وَيَتَتَابَعُ تَصَرُّمُ لَيالِيهَا لَيلَةً بَعدَ أُخرَى، ولا يَصِحُّ أن تكونَ جميعُ ساعاتها لَهْوٌ ومَرَح، بل لِيَكُن منها ساعاتٌ يسيرات تكْتسبُ فيها علمًا، أو تتعلمُ عمَلًا، أو تُحصِّل معرفة، أو تَعتملُ حِرْفة، فَكِّر وقرِّر، وَشَاوِر وبَادَرَ، وإياك وسوف، فالوَقتُ لا يَتَوَقَّفُ.

أَيُّهَا الآباء والأولياء: إِنَّ أَبنَاءَنَا في الإِجَازَةِ يَعِيشُونَ فَرَاغًا كَبِيرًا، إِنْ لم يُستَثمَرْ فِيمَا يَنفَعُهُم وَيَعُودُ عَلَيهِم بِالفَائِدَةِ في دُنيَاهُم وَآخِرَتِهِم، فَإِنهم سَيَقضُونَهُ فِيمَا يَضُرُّهُم في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم.

كونوا حُرَّاسًا أُمنَاء، وأولياءَ أوفيَاء، وفُطناءَ وحُكماء، صونوا أولادَكم عن كُلِّ معتدٍ موبِق، فالخطرُ مُحدِق، اجتنِبوا التفريطَ والتشاغُل، حاذِرُوا التقصيرَ والتساهل، تَيقَّظوا من الغفلة، وقوموا بواجب المسؤولية، وأكثِروا من الدعاء بصلاحِ الأهل والأولاد والذرية، والعصمةِ من مُضِلاَّت الفتن وكلِّ بَلِيَّة.

إِنَّ في الإِجَازَةِ لَفُرَصًا لِمُريد الخَيْرِ لأَولادِه، فَهُنَاكَ الدَّورَاتُ المُكَثَّفَةُ لِحِفظِ القُرآنِ ومراجَعَتِه، والدُّروسُ العِلمِيَّةُ الشَّرعِيَّةُ، والنَّوَادِي الصَّيفِيَّةُ، والدوراتُ التعلميةُ في سائرِ العلومِ الـمَعرِفيَّة، مِنْ تعلُّمِ اللُّغات، إلى المِهَنِ والحِرَفِ والتَّقْنِيَات، وقد تَيَسَّرَتْ بالتعلُّم عنْ بُعد، وذلك من السَّعد، فهو في البيت تحت نظرك لم يُكلِّفك عناء طريق ولا خشيةَ تجدُّدِ الصديق.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. واسْتَغْفِرُوا اللهَ إنه غفورٌ رحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد:

فاعمروا أوقاتَكم وأوقاتَ أولادِكم بما ينفع آخرةً ودنيا، فرياضُ القرآن خيرُ مستودَع، وحَلْقاتُ العلم وكتُبُه بها المرءُ لنفسه ينفع، وبتحصيله في العلومِ الدنيوية فرضُ الكفاية عن الأمةِ يرفع، وللشرِّ يدفع، فالنفسُ إنْ لم تَشْغَلْهَا بالحق شغَلتْكَ بالباطل.

اجتَهِدْ في لَحَاقِ مَن سبَقَك ما دام في الوقت سَعةٌ، واسْقِ غُصْنَك ما دامت فيه رُطُوْبَة، واذْكُر ساعاتِك التي ضَاعَت، فكَفَى بها عِظَة، ذهبَتْ لذةُ الكَسَلِ، وبقيت حسرةُ فوات تَحَقُّقِ الأَمَل.

يا مُريْدَ السَّفَرِ: استَشِر واستخِر، وإذا أجَلْتَ النظرَ في عجيب خلق الله فاعتَبِر، واجعَل قصدَ السفر لذلك وأكثر، ومَن أَحْسَنَ النيةَ واسْتَشْعَرَ المسؤولية، فإنه مأجور ومُعان، فلا تَغْشَ مواطِن الفتَن والعِصيان، ففي المباح سعة، وفي غشْيَانِ ما يَحرُمُ: المرءُ يأثَم، ولمثلِ إثمِ ولدِه يَغْرَمُ، فليس الأمرُ متقصرًا على ذنبٍ يَقْتَرِفُه، بل تَنْشِئَةٌ للولدِ على إثمٍ يَأْلَفُهُ، واللهُ المسؤول أنْ يُيُسِّر ويَغْفِر، ويُصلِحَ ويُربِح، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم صلُّوا وسلموا عَلَى صاحب المقامِ المحمود والحوضِ المورود، وذلك كلَّ يومٍ وزيادةً منهما في هذا اليوم المشهود، كما أمَرنا ربُّنا الرحيمُ الودود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

المرفقات

1752735617_خطبة عن الإجازة 1447.docx

1752735617_خطبة عن الإجازة 1447.pdf

المشاهدات 140 | التعليقات 0