الأَعْرَاضُ؛ صيانَةٌ وإِعْرَاضٌ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1447/05/29 - 2025/11/20 21:50PM

الحمدُ للهِ الذي جعلَ للإنسانِ عِرْضَاً مُصَانَاً، وحَفِظَ لِكلِّ نَفْسٍ كَرَامَتَها فَضْلاً مِنْهُ وامْتِنَاناً، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَه عَزَّ جَاهاً وسُلْطَاناً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه جَعلَ اللهُ رسالتَهُ شَامِلةً للنَّاسِ زَماناً ومكاناً، صلّى اللهُ وسلمَ عليهِ عددَ مَا نَادَى المُؤذِّنُ للصَّلاةِ ودَعَانَا، وعددَ ما تفضَّلَ اللهُ بِهِ علينَا مِنَ النِّعمِ وأعْطَانا، وعلى آلهِ وأصْحابِه والتّابعينَ لهمْ بإحسَانٍ إلى يَومٍ يَصْعَقُ فيهِ النّفْخُ قلوباً وآذاناً..

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فتقوى اللهِ حمايةٌ، ووقايةٌ، وغُنْيَةٌ، وكِفايةٌ، " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: للمسلمِ عِرْضٌ مُصَانٌ، يَحرُمُ التّعدي عليهِ، وانتهاكُه، ويَجبُ حِفظُهُ وحِمَايَتُه.

 والتَّعدِي على العِرْضِ في الشَّرْعِ؛ ليسَ مُجَرّدَ القذفِ والنَّيلِ مِنَ الشّرفِ، والمحارمِ؛ بلْ يَشْمَلُ عِرضُ المُسلمِ؛ كلَّ أذيَّةٍ له بالقولِ أو الفعلِ، عن سعيدِ بنِ زيدٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "إنَّ مِنْ أرْبى الرّبا الاستِطَالَةَ في عِرضِ المسلمِ بغيرِ حقٍّ" رواهُ أبو داودَ وصححهُ الألبانيُّ. ومِنْ ذلكَ الوقوعُ فيْه هَمْزًا ولَمْزًا وغِيبةً ووقيعةً، وعقوبةُ ذلكَ عظيمةٌ عندَ اللهِ -جلَّ وعلا-، فقدْ جاءَ في ذلكمْ أحاديثُ كثيرةٌ عنْ رسولِ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ-، ولو لمْ يأتِ في هذا إلّا مَا رواهُ أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ". رَواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ وصححهُ الألبانيُّ.

معاشرَ المؤمنينَ: مِنْ شِدَّةِ صِيَانَةِ الإسلامِ للأعْرَاضِ، والحفاظِ عليها؛ جاءَ التّغْلِيْظُ والتَّشْدِيْدُ في ذُنُوبٍ خاصَّةٍ مُتعلِّقةٍ بالأعْرَاضِ؛ لأنَّ الوقوعَ فيها أكثرُ هَدْماً للمجتمَعِ، وأشدُّ فتكاً في القِيَمِ، فَمِنْ ذلك الزِّنا بِحَلِيْلَةِ الجَارِ ــ وهي زوجتُه، ويلحقُ بها جميعُ مَحارِمِ الجارِ ــ فقدْ عدّهُ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ مِنْ أكْبَرِ الذُّنوبِ، وقرنَهُ بالشركِ باللهِ وبقتلِ الوَلَدِ؛ عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "سَأَلْتُ -أوْ سُئِلَ- رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أكْبَرُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ معكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: أنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ جَارِكَ. قالَ: ونَزَلَتْ هذِه الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنَ الذّنوبِ العظيمةِ المتعلِّقَةِ بالأعْرَاضِ: إشاعةُ الفاحشةِ بينَ النّاسِ، والسَّعيُ في ذلك ومَحَبَّتُه؛ قالَ تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"

ومِنَ الذّنوبِ العظيمةِ المتعلِّقَةِ بالأعْرَاضِ: تَتَبُّعُ العوراتِ، والفَضَائِحِ؛ عنْ أبي برْزَةَ الأسلَمِيِّ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "يا مَعشرَ مَنْ آمنَ بلسانِه ولم يَدْخلْ الإيمانُ قلْبَه، لا تَغْتَابُوا المسلمين، ولا تَتَّبعوا عَوراتِهم، فإنَّه مَنِ اتَّبعَ عَوْراتِهم يَتَّبِعُ اللهُ عورَتَه، وَمَنْ يَتَّبعِ اللهُ عَورَتَه يَفْضُحُه في بيتِه" رواهُ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وصححهُ الألبانيُّ.

عبادَ اللهِ: مِنْ أشدِّ الابتلاءِ؛ ابتلاءُ المرءِ في عِرْضِهِ، حينَ ينبري الأفَّاكُوْنَ، وقَلِيْلُو الخَوْفِ مِنَ اللهِ للطعنِ في العِرْضِ، والاستطالَةِ فيه، ويُشِيْعوه، ويَنْشُرُوه، فهنا يَأتي التّعامُلُ الشّرعيُّ الصحيحُ مَعَ هذا الابتلاءِ، وهو الحكمَةُ والرّويَّةُ، والصَّبْرُ والحِلْمُ، وقُدْوَتُنَا في ذلك؛ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ؛ في تعامُلِه معَ حادِثةِ الإفكِ، فمَعَ الأذى العظيمِ الذي أصابَه، والهمِّ الطّويلِ الذي صاحبَه، وبقائهِ شهراً لا يوحى إليهِ بهذا الشَّأنِ؛ فإنّه لم يَعْجَلْ عليه الصلاةُ والسلامُ، ولم يَتَّخِذْ قراراً مَصِيْرياً، ولمْ يُقِمْ حدّاً، ولا عقوبَةً؛ حتّى تَجلَّتِ الأمورُ، وظهرتِ الحقائقُ، وتكشّفتِ الحادِثَةُ. أمّا سائرُ المؤمنينَ فينبغي أنْ يكونَ موقِفُهم عندَ سماعِ الطّعنِ في الأعراضِ؛ حُسنَ الظّنِّ، وعَدمَ تَصْدِيْقِ الطّاعِنينَ في الأعْرَاضِ، فقدْ عاتبَ اللهُ المؤمنينَ على سَمَاعِ الإفْكِ وتصديقِه فقالَ سبحانَه: "لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ"

 باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما مِنَ العِبَرِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفّاراً.

الخطبةُ الثّانيةُ:

الحمدُ للهِ على ما أنْعَمَ، والشكرُ لهُ على ما أكْرَمَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورَسُوْلُه؛ صاحبُ الوَجهِ الأنورِ، والجبينِ الأزهرِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه والتّابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"

معاشرَ المؤمنينَ: واجبٌ على المُسلمِ صِيَانَةُ عِرضِه، وحِفظِهِ، وعدمُ تَعْرِيْضِهِ للأذى والذَّمِّ، وهذا لا يَتَأتّى إلّا بالمُحافَظَةِ على السُّمْعَةِ، وتَجَنُّبِ أسبابِ المَسَاخِطِ والمَسَابِّ، ومواطنِ الرِّيبَةِ والشُّبْهَةِ، ويتأتَّى ذلكَ أيضاً؛ بِمُرَافَقَةِ المَحارِمِ والأهلِ في الأسْفَارِ، وفي الأسْوَاقِ، وفي المُتَنَزَّهاتِ والأماكِنِ العامَّةِ، قالَ عمُرُ بنُ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنه: (إنَّمَا النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَمٍ إلّا مَا ذُبَّ عَنْهُ)

قالَ القحطانيُّ في نونيَّتِه:

إنَّ الرِّجالَ النَّاظِرينَ إلى النِّسا*مِثْلُ الكِلابِ تَطُوفُ باللُّحْمَانِ​

إنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ الّلُحومَ أُسُوْدُها*أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ​

وعلى المُسلِمِ أنْ يَتَحمَّلَ التَّعبَ والمَشَقَّةَ في سَبِيْلِ الحِفَاظِ على عِرْضِهِ؛ ولو كَلَّفَهُ ذلكَ وأرْهَقَهُ، فَتَعَبُ البَدَنِ أَهونُ مِنْ تَعبِ أذى العِرْضِ، وخَسَارَةُ المَالِ في سَبِيْلِ صِيَانَةِ العِرْضِ؛ وَجْهٌ مَشْرُوْعٌ، ومَصْرِفٌ عائدٌ بالأُجورِ والحسناتِ؛ قالَ حَسَّانُ بنُ ثَابتٍ رضيَ اللهُ عنه:

أَصونُ عِرضي بِمالي لا أُدَنِّسُهُ*لا بارَكَ اللَهُ بَعدَ العِرضِ بِالمالِ

أَحْتَالُ لِلمالِ إِنْ أَوْدَى فَأَجْمَعُهُ*وَلَستُ لِلعِرضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحتالِ

هذا وصلوا وسلموا ..

المرفقات

1763664745_الأَعْرَاضُ؛ صيانَةٌ وإِعْرَاضٌ.docx

المشاهدات 350 | التعليقات 0