الأمانة والمال العام

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/06/04 - 2024/12/06 07:20AM

الأمانة والحفاظ على المال العام 

 الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ جَزِيلَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ،  وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :

أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عباد الله : الأمانةُ شأنُها عظيمٌ ، وحِملُها ثقيلٌ ، وهيَ منْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ ، وَمنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْبِرِّ والْإِحْسَانِ ، قال صلى الله عليه وسلم:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ " رواه أحمد وصححه الألباني.

 

وقد أمر اللهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ النساء:58، وَنَهَى النبيُ  صلى الله عليه وسلم عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الخِيَانَةِ ؛ وعدّها من صِفَاتِ المنافقين ؛ فقال : " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ

كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " رواه البخاري .

ونَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِ الْخِيَانَةِ ، فقال: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " رواه أحمد وصححه الألباني .

عباد الله : ولا تَقتصرُ الأَمانةُ على حِفظِ الوَدائعِ ، بلْ هيَ إِحدَى صُورِها ، أمَّا حقيقةُ الأَمانةِ ؛ فهي أَوسعُ وأشملُ منْ ذلكَ ، فكلُّ ما أَوجبَهُ اللهُ تعالى على عِبادهِ منْ حُقوقِ اللهِ تعالى ، وحُقوقِ المَخلُوقينَ ؛ فهوَ منَ الأَمانةِ .

ومنَ الأمَانةِ: حِفظُ المالِ العَامِ ، الَّذِي جَعَلَهُ ولِيُّ الأَمْرِ لِعُمُومِ النَّاسِ  ، وهو أَشدُّ في حُرْمَتهِ منَ المالِ الخَاصِّ ؛ لِكَثرةِ الحقُوقِ الْمُتَعلِّقَةِ بِهِ ، وتَعدُّدِ الذِّمَمِ المالِكَةِ لَهُ ؛ لأَنهُ مَالُ المسلمينَ ، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ

وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال : 27.                     

عباد الله : ومنْ صُورِ التَّعدي على المالِ العامِ :

تَخريبُ المُنشآتِ العامةِ ، أو الاستيلاءِ عَليها  ، أو السَّرقةِ مِنها ؛ كَسرقةِ التيارِ الكهرُبائِي أو سَرقةِ مياهِ الشُّربِ ، أو إِهدارِ المالِ العامِ  ، أو الإِخْلَالِ بِوَاجِبِ الوَظِيفَةِ ، أو استِغلَالِها لِأَغرَاضٍ شَخصِيةٍ ، كسيارةِ العملِ ، وجِهازِ الحاسبِ ،

وتَصويرِ الأَوراقِ ، أو إِعطاءِ المَشاريعِ أو الوَظائفِ لمنْ لا يَستحقُّها ، وتَقديمُهمْ على غَيرهِمْ ، معْ وُجودِ منْ هوَ أَولى مِنهمْ،  إِمَّا لِقرابةٍ أو مَصلحةٍ شَخصيةٍ .

ومن أمثلةِ الفَسادِ: أَخذِ الرِّشوةِ ، وهيَ منْ كَبائِرِ الذُّنوبِ ، ومنْ صُورِها قَبُولُ الهديِّةِ منَ المُراجعينَ ، وكُل ما أُهدي بسببِ الوَظيفةِ ؛ فإنهُ رِشْوَةٌ وهو منَ الغُلُولِ الَّذي نهى اللهُ عنهُ ، وحذّرَ مِنهُ ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ ﴾ آل عمران: 161.

وقال صلى الله عليه وسلم :" مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا –أي اعطيناه أجرا-، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ "  رواه أبوداود وصححه الألباني .

وَاسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا ، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ  " رواه البخاري.

فانظروا كيفَ غضبَ النبيُ ﷺ  من قَبولِ الرجُلِ للهَديةِ ، وهو قدْ أَدَّى الأمانة التي كُلفَ بها ، فكيف الحالُ بِمَنْ يأخذْ من المالِ العَامِ بِغيرِ حَقٍّ؟

قال صلى الله عليه وسلم  :" «‌إِنَّ ‌رِجَالًا ‌يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ،- أي يتصرفون بغير حق -  فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رواه البخاري.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.         

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً  ،       أمَّا بعدُ :

عباد الله : إِنَّ المُؤمنَ يَتحرَى الحَلالَ الطَّيبَ ، ويَجتنبَ الحَرامَ الخبيثَ ، قال تعالى:﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران: 100.

فالمالُ الحرامُ يُزينهُ الشيطانُ لِضعافِ النُفوسِ ، وهو سَببٌ لمنعِ إجابةِ الدُعاءِ ، وإِغلاقِ بابِ السماءِ ، وسَببٌ لمحقِ بركةِ المالِ ، و نُزولِ البلايا على الناس ، و فَسادِ القلبِ وحِرمانِ التَلذُذِ بالطاعةِ ، و الجُرأةِ على المعاصي والحرمات .

وهو طَريقٌ مَحفوفٌ بِالخطرِ ، وسُلَّمٌ يَنهارُ بِصاحِبهِ إلى النارِ ، قال صلى الله عليه وسلم : "‌ إِنَّهُ ‌لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌لَحْمٌ ‌نَبَتَ ‌مِنْ ‌سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ " رواه أحمد بسند صحيح .

عباد الله : ومما يدلُّ على شناعةِ الغُلولِ وشِدةِ تَحرِيمهِ ، أَنَّ رَجلاً كانَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في خَيبر فرُمي بسهمٍ ، فكانَ فيهِ حَتفَهُ ، فقلنا: هنيئاً لهُ الشَّهادةِ يا رَسولَ اللهِ ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ

مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، ‌إِنَّ ‌الشِّمْلَةَ ‌- وهي كساء صغير يؤتزر به - لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا ،  أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ »، قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله

عليه وسلم : "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ " رواه مسلم . والشراك هو السير المعروف الذي يكون في النعل على ظهر القدم .

فهذا رَجلٌ صحبَ النبيَ صلى الله عليه وسلم ، وخرجَ معهُ في الِجهادِ وقُتلَ ، وظَنهُ النَّاسُ شَهيداً ومعَ ذلكَ أَخبرَ النبيُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُعذبُ في قبرهِ ،  بِسببِ شَيءٍ يسيرٍ من المالِ العامِ أَخذهُ لِنفسهِ .

عباد الله :  إِنَّ على الأُسرَةِ ومَحاضنِ التَّعليمِ ؛ دَوراً مُهمًّا في غَرْسِ قِيمِ الأَمانَةِ والنَّزَاهةِ لدى النَّاشِئةِ ، وذلك بِتربيَتهِمْ وتَوْجِيهِهِمْ ؛ إلى أَهَمِّيةِ الأَمَانةِ في حَيَاتِهمْ .

ولِيَعلمِ المُسلمُ أَنَّ حِمايةَ المَالِ العامِّ ؛ وَاجبٌ على كُلِّ مُواطنٍ ومُقيمٍ  لِصَدِّ هذا الفَسادِ ؛ ولِتَسلمَ منْ شَرِّهِ البِلاَدُ والعِبَادُ ، لعمومِ قَولِ اللهِ تَعَالى : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ المائدة : 2

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1733458818_الأمانة والمال العام خطبة جمعة.docx

المشاهدات 523 | التعليقات 0