الإخبار ببعض حقوق الكبار
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الخَلْقَ، وأَقْسَمَ لَيَركَبُنَّ النَّاسُ طَبَقًا عَن طَبَقٍ، أطوارًا متعددة وأحوالًا متباينة، قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَأَرْزَاقَهَا، وَحَدَّدَ أَعْمَارَهَا وَآجَالَهَا، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَه وَتَعَالَى وَنَسْتَعِينُهُ ونَستَغفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيهِ، أَشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ نُؤْمِنُ بِهِ ونَتَوَكَّلُ عَلَيه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلِه وَأَصْحَابِهِ أَجْمعِين، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أمَّا بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوا اللهَ وأَطِيْعُوه، وعظِّموا أَمْرَهُ ولا تَعصُوه؛ فَمَن اتَّقَى اللهَ حَسُنَ تَوكُّلُه على رَبِّه فيما نَابَه وأصابه، وحَسُنَ رِضَاهُ بما آتاه وأَعطَاه، وحَسُن زهدُه فيما حُرِم، وحَسُن صَبْرُهُ عمَّا حرُم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
عباد الله.. إنَّهم مواطن الوقار ومعادن الآثار ورواة الأخبار وحَفَظَةُ الأَسْرَار. إنْ رأوكَ في قَبِيْحٍ مَنَعُوك، أو جَميلٍ أيَّدوك. ليسوا بأهلِ صَبْوَةٍ إلى الشَّهَوات، وتَضييعٍ وانْفِلات. إنهم مشايخ السِّنِّ الكبار، أهلُ التقدير والإجلال والإكبار.
قد وَهَنَ منهم الْعَظْمُ، وضَعُفت القوى، وقلَّ النَّشاط، فهُمْ أهلٌ أنْ يُجَلُّوا ويُعَظَّم مقامهم ويُقام على خِدمتهم (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ». فإكرامَ ذِيْ الشَّيْبَةِ المسلم مِنْ إِجْلَالِ اللهِ سبحانَهُ وتَعَالى، يتقرب به المؤمنون إلى الله، ويطلبون به الثواب من الله، قد كَبِرَ سِنُّه واشتعل بالشيبِ رأسُه، وهو على الإسلام ثابت، وعلى التوحيد نشأ، فلم يسجدْ لِصَنَم ولم يَدْعُ مع اللهِ أحَدًا، ولم ينقلبْ على عقبيه مرتدًّا، عابدٌ خاشعٌ منيبٌ أوَّابٌ أواهٌ مُحِبٌ لله تعالى، فمِنْ حَقِّ هذا الذي شَابَ على هذه الحال الإجلالُ والإِكْرَام، وأنْ يُدْعَى له بِحُسْنِ الختام.
كما أنَّ مِنَ الواجبِ على الـمُسْلِمِ أنْ يحسن عبادةَ الله، وأنْ يُحْسِنَ لعِبادِ الله، وأنْ يُنْزِلَ الناسَ منازِلَهُم ويُعطِي كلَّ ذِي حَقٍّ حَقِّه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» فواجبٌ أَنْ تَعرِفَ للناس منازلَهم وأَقْدَارَهِم وحقوقَهم. فأنت لك شرفك ومنزلتك، تقدم في المجالس، وتقدم في الكلام. ومِنْ حُقوقِ كَبِيرِ السِّنِّ تَقْدِيْمُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي الْكَلَاَمِ، وَفِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالشَّرَابِ والطَّعَامِ، انْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ»، وفِيْ لَفظٍ: «كَبِّرِ الْكُبْرَ فِي السِّنِّ». متَّفقٌ عليه. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَرَانِي أَتَسُوكُ بِسِوَاكَ، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ، أَحَدَّهُمَا أكْبَرُ مِنَ الْآخِرِ، فَنَاوَلَتِ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعَتْهُ إِلَى الْأكْبَرِ مِنْهُمَا».
كما يُبْدَأُ الكبير بِالسَّلَامِ؛ من باب التقدير والاحترام، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي».
عباد الله.. إن كبار السن يظهر عليهم الوقار والطمأنينة والحرص على الخير والبعد عن المحرمات والإقبال على الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عَمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ». و «مَنْ شَابَتْ لَهُ شَيْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وقال الحسن: أفضل الناس ثوابا يوم القيامة المؤمن المعمّر.
دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَسْجِدَ فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا، فَدَعَا بِهِ فَقَالَ: يَا شَيْخُ: أَتُحِبُّ الْمَوْتَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: ذَهَبَ الشَّبَابُ وَشَرُّهُ، وَجَاءَ الكِبَرُ وَخَيْرُهُ، فَإِذَا قُمْتُ قُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا قَعَدْتُ قُلْتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَبْقَى لِي هَذَا.
إن هؤلاء الأفاضل الأخيار والأماثل الأبرار.. أهلُ الطاعة والإقبالِ على الله والسجود والاستغفارِ الداعين اللهَ عزَّ وَجَلَّ لهم ولِذَوِيْهِم ولعموم المسلمين. فَحَقٌّ علينا أن نعرف قَدْرَهُم وأنْ نَرْعَى مَكَانَتَهُم فهم والله زِينَة البيوت وبهجَةُ الـمَجالِس وأُنْسُ الـمُجالِس. «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» لِيَكُنْ جُلَسَاؤُكَ ذَوِي الأسنان، فالشبابُ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُون، مرَّ الحسنُ البَصريُّ بفتيانٍ فقال: شُوْبُوا مَجْلِسَكُم بِشَيْخ. وقد قيل: الشيخُ في رأيه كالجَذْلِ المحَكَّك، لا يَهُدُّه خَطْبٌ ولا يُزَعْزِعُه صَرْف، والشاب كالغُصْنِ النَاعِمِ الذي يَسْتَحِيْلُ بأَيْسَرِ رِيْحٍ وأَيْسَرِ آفَة. -الجذْلُ: أصْل الشجرة، والمراد: أنه يشتفى برأي الكبير-.
إنَّ مَنْ عَدِمَ هذه المعرفةَ سَيَعْدَمُ ولا بُدَّ القيامَ بحقوقِهم وتأدية واجباتهم وثبت من حديث أبي هريرة وأنسٍ وعبدِالله بنِ عَمْرٍو وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» وفي رواية: «وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا» وفي رواية: «وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا» فلا بُدَّ مِنْ مَعرِفَةِ مَكَانَةِ الكِبَارِ وقَدْرِهِم والقيامِ بِحَقِّهِم، ومَن لَّا يَعْرِفُ مكانةَ وقدرَ وحقوقَ كِبَارِ السِّنِّ فإنه ليس على هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وليس على طريقته صلوات الله وسلامه عليه.
لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ ودَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسْجِدَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى جَاءَ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَجِيئَهُ» فَقَالَ: يَمْشِي هُوَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَقُّ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدْرَهُ، وَقَالَ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ» فَأَسْلَمَ.
عباد الله.. إنَّ كثيرا من كبار السن يحتاجون إلى رعايةٍ خاصة وعنايةٍ بدنية ونفسية واجتماعية، ومَن عَرَفَ حقَّ مَنْ فَوقَه، عَرَفَ حَقَّهُ مَنْ دُونَه، وكما يَدِيْنُ الـمَرْءُ يُدَان، فكما تَجزِي تُجْزَى، فمن كان عارفا بحقوق هؤلاء مؤدياً لواجباتهم فإن الله عز وجل يقيض له في كبره من يقوم بحقوقه وواجباته، وجَزاءُ الإِحسانِ الإِحسَانُ، وقد رُوي في الحديث: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ» وقال يحي بن سعيد: "بَلَغَنَا أنَّ مَن أَهانَ ذَا شَيبةٍ لَمْ يَمُتْ حتَّى يَبعثَ اللهُ عَليهِ مَن يُهيِنُ شَيبَتَهُ إذَا شَابَ". فإَذا أَكرمتَ شَيخاً وأَنتَ شَابٌّ، جازاكَ اللهُ مِن جِنسِ عَمَلِكَ؛ فهَيَّأ لكَ مَن يُكرِمُكَ وأَنتَ في حَاجةٍ إِلى الإِكرامِ.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وَبِهَدْيِ سيِّدِ المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:
فيا أيها الشيخ الجليل، ذي السِّن والقَدرِ الكبير.. اعمُر عمُرَكَ بطاعة الله، وإنَّ مِقْدَارَ عُمُرِكَ في جَنْبِ عَيْشِ الجَنَّة كنَفَسٍ واحد، فإذا ضيّعت نَفْسَكَ فخَسِرْتَ عَيشَ الأَبَدِ فإنَّكَ مِنَ الخاسرين. الشيب مطيّة الأجل وطريدة الأمل. أوّل من شاب إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام. قال: يا ربّ ما هذا؟ فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ. فَقَالَ: رَبِّ. زِدْنِي وَقَاراً. فهكذا فلْيَكُنْ أثَرُ الشيبِ عليك وقارٌ، وهو التأني في الأمور، والرَّزانَةُ عند التوجه إلى المطالب، وعدم مواقعة المعايب.
رأى حكيمٌ شيبة فقال: مرحبا بثمرة الحكمة وجَنْيِ التَّجْرِبَةِ ولِبَاسِ التقوى.
كما أنَّ الشيبَ علامة على عجز العمل، وضعف الأمل، ووثبة الأجل. وهو واعظٌ نَصِيح ومُنْذِرٌ فَصِيح. قال الإمامُ أحمدُ بنُ حَنْبَل: ما شَبَّهتُ الشبابَ إلّا بشيءٍ كان في كُمِّيْ فَسَقَطْ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. وَفِي الصَّحِيح أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا». اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
خطبة سابقة بعنوان (من حقوق كبار السن)
https://khutabaa.com/ar/discussions/%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%82%D9%88%D9%82-%D9%83%D9%80%D8%A8%D9%80%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%80%D8%B3%D9%80%D9%86
المرفقات
1756908001_الإخبار ببعض حقوق الكبار.docx
1756908001_الإخبار ببعض حقوق الكبار.pdf