البيوت نعم تجدد 1447/1/23هـ
عبد الله بن علي الطريف
البيوت نعم تجدد 1447/1/23هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لا تُعَدُّ، وَعَلَى إِحْسَانِهِ الَّذِي لا يُحَدُّ، صَاحِبِ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، عَظُمَ شَأْنُهُ وَعَزَّ سُلْطَانُهُ، وَعَمَّ فَضْلُهُ وَتَوَالَى إِحْسَانُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ الـمُطَهَّرُ سِرُّهُ وَإِعْلانُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله وأطيعوه، واشكروه على نعمِهِ الكثيرةِ وآلائِه الوفيرةِ.. وإنَّ من نعمه ما منَّ به علينا من إيجاد البيوت، قال سبحانه لافتًا أنظارَ المؤمنين لهذه النعمة: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ..) [النحل:80] في هذه الآية يُذكرنا تعالى بنعمةِ السكن، ويستدعي منا شكرَها والاعترافَ بها، فقد أوجد لنا الدور والقصور ونحوها تُكِنُّنَا من الحرِ والبرد.. وتسترنا وأسرَنَا وأمتعتَنَا.. نَفِيءُ إليها فتسكنُ أرواحُنا، وتطمئنُ نفوسَنا ونأمنُ على عوراتِنا وحُرمَتِنَا.. ونُلقي في كَنَفِها أعباءَ الحَذَرِ والحرصِ الْمُرْهِقَةِ للأعصابِ..
(وَجَعَلَ لنا مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ) من الجلد نفسه أو مما نبت عليه، من صوف وشعر ووبر. (بُيُوتًا) خفيفة الحمل تكون لنا في السفر والمنازل التي لا قصد لنا في استيطانها، فتقينا ومتاعنا من الحر والبرد والمطر.. وجعل سبحانه هذه البيوت حرمًا آمنًا لا يستبيحه أحدٌ إلا بعلم أهله وإذنهم.. وفي الوقت الذي يريدون.. وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس..
أيها الإخوة: والبيوت مكانٌ للسكن والراحة، فمهما كان مكان عمل الإنسان مريحًا مكيفًا، فإن المرء لا يشعر بالراحة إلا حينما يعود إلى بيته، ومهما كان مكان استضافة المرء جميلًا فاخرًا، فإن الإنسان يشتاق للعودة إلى بيته وسكنه، فقد جعل الله في البيت سكنًا لا نجده في غيره، قال عزّ وجلّ (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) [النحل:80]، وهذه النعمة من أظهر فوائد البيت للإنسان، حتى إن لفظ السكن تحل في الاستعمال محل كلمة البيت أو المنزل في كثير من الأحيان.
والبيوت أيها الإخوة: محط الثواب.. وللعبادة محراب لمن وفق لطاعة رب الأرباب.. وليست بيوتنا مأوى كبيوت بقية غير المسلمين، ولكنها مكان نتعبد فيه الله عز وجل، فكل نشاط فيها عند غيرنا عادة، هو عندنا عبادة.. وقد علمنا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أن الدعاء عبادة. ففيها يتعبد المؤمن ربه بخفاء، ويدعوه بصفاء، وحتى تكون البيوت مأوى آمنًا مباركًا شُرعت فيها بعض الأدعية والأذكار ومنها الدعاء عند دخول المنزل قَالَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ.» رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» أخرجه مسلم عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
ومنها السلام عند دخول المنزل قال الله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61] قال الشيخ السعدي ما ملخصه: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا) يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت من غير فرق بين بيت وبيت (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: يسلم بعضنا على بعض، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من تواددهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، بقول "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" أو "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ومدح الله هذا السلام فقال: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) أي: جعلها الله تحية (مُبَارَكَةً) لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، و(طَيِّبَةً) لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة.
ويشرع لنا عند الأكل والشرب واللباس والنوم ودخول الخلاء وغيرها عددًا من الأدعية، والغالب أنها تكون في المنزل قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.. وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي، وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه أبو داود والحاكم عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني. «وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤْوِيَ.» رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. والصلاة في البيوت للرجل أفضل من المسجد إلا المكتوبة.. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ.» رَوَاهُ البُخَارِيُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
والأفضل للمرأة أن تصلي فرضها ونفلها في بيتها، لكن إن رغبت في الصلاة بالمسجد فيُنْهى وليُها عن منعِها، قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ». رَوَاهُ البُخَارِيُ، وَرَوى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-..
وفي البيوت تحلوا تلاوة كتاب الله فالتلاوة فيه أبعد عن الرياء، وسبب لطرد للشياطين والحفظ من كل مكروه، وفيه استجابة للتوجيه النبوي الكريم وإحياء لسنته فقد قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي لا تعطلوا بيوتكم من الصلاة والذكر والتلاوة والعبادة، فتكون شبيهة بالقبور.. وفي البيوت احتساب النفقة على الزوجة والذرية، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي في امرأتك». رواه البخاري ومسلم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفي البيوت الرحمة وحسن العشرة، فإذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم، وقبلوا صغاركم وصافحوا كباركم، وابتسموا ورحبوا، وأشيعوا الأنس والسرور بقدومكم.. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ» رواه الترمذي وأحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وقال الأرنؤوط صحيح لغيره. فاللهم بارك لنا في بيوتنا واجعلها عامرةً بذكرك وطاعتك.. اللهم صلى وسلم على نبينا محمد..
:الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ العَالَمِين وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الْمُتَقِيْنَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ، وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، أيها الإخوة: وفي البيوت تربية الذرية وتعليمهم فهو مكان إقامتهم ومأوى هم في النهار ومهجعهم في الليل ومكان رعاية الوالدين لأولادهما.. وهما مسؤولان أمام الله تعالى عن هذه الرعاية، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، ثم قال: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». رواه البخاري عَنْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
وبعد: ليست البيوت جدرانًا وأثاثًا وفرشًا فقط، بل هي رياضُ طاعة ومواطنُ أجر، فيها تُبنى القلوب وتُرفع الدرجات.. وليست البيوت مكانا للنزاع والشقاق والخصام، إنما هو مبيتٌ وسكنٌ وأمنٌ واطمئنانٌ وسلامٌ.. من وُفّق فيها للعبادة نال خيراتٍ لا تُحصى، ومن أحسن العشرة ربح الدنيا والآخرة..
الإسلام يريد الحفظ والسلامة لمن كان دخل البيت ولمن خرج منه ليعيش المسلم بأمن وأمان وراحة.. لذلك شُرع الدعاء عند الخروج من المنزل: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ قَالَ يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» رواه أبو داود والترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وصححه الألباني.
وبعد أيها الإخوة: سمى الله البيوت سكنًا وهي تسمية جميلة عميقة توحي لسامعها بالطمأنينة والراحة.. هكذا أرادها الرحيم الرحمن.. ففي البيوت نعمة لا يَقْدُرُها حَقَّ قدرِها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة.. ولا يعرف أهميتها حق المعرفة إلا أولئك المداهمون في دورهم في أي لحظة.. أو المعرضة بيوتهم لنيران أعدائهم وقصفهم.. وكم في هذا العالم من خائف وشريد وطريد.. نعم إن التذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة العظيمة؛ فيستجيشها.. ويذكي الشكر لله على ما أنعم به علينا..