التسويف
تركي بن عبدالله الميمان
التسويف
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إنَّ الحمدَ لِله، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ، ونَستَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إليه، مَنْ يَهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فأُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ ﷻ، فَهِيَ سَبَبٌ لِلأَجرِ العظِيم، والخيرِ العَمِيم! ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّهُ رَأْسُ مَالِ المَفَالِيْس، وجُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيْس؛ إِنَّهُ التَّسْوِيْف![1]
فَإنَّ مِنْ أَعظَمِ أَسلِحَةِ الشيطَان: التسويفُ والخِذلان! قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا* وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾. قال ابنُ كَثِير: (﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾: أَيْ أُزَيِّنُ لَهُم تَرْكَ التَّوْبَةِ، وأَعِدُهُمُ الأمانِيَ، وآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ!)[2].
ومِنْ أدويةِ التسوِيف: نَبْذُ الكَسَلِ، والتشميرُ بِالجِدِّ والعَمَل[3]؛ قال U: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقال ﷺ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ)[4]. قال ابنُ القَيِّم: (الجِدُّ: هُوَ صِدْقُ العملِ، وإخلاصُهُ مِنْ شوائبِ التسويفِ؛ فَهِيَ أَضَرُّ شيءٍ على العبدِ، وهِيَ شَجَرَةٌ ثَمَرُهَا الخُسرَانُ)[5].
ومِنْ أعظمِ أدويةِ التسوِيف: ذِكْرُ الموت! والمُبَادَرَةُ بالتوبَة؛ قبلَ هُجُومِ المَنِيَّة، وفَوَاتِ الأُمنِيَةِ! قال ﷺ: (إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ؛ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّع)[6]. قال ابنُ الجوزِي: (وهذَا نهايةُ الدواءِ لهذا الداء؛ فإنَّهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا يَبْقَى إلى صَلاةٍ أُخرَى؛ جَدَّ واجْتَهَد!)[7].
ومِنْ أدويةِ التسويف: تَقصِيرُ الأَمَل؛ لِأَنَّ طُولَ الأَمَلِ يَبْعَثُ على التكاسُلِ والتسويفِ، ورُبَّما اخْتَطَفَهُ الأَجَل، قبلَ إصلاحِ العَمَل![8] قال تعالى -في وصف الغافلين-: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[9].
ومِنْ أدويةِ التسويفِ: الاِلتِجَاءُ إلى اللهِ؛ فَإِنَّ مِنْ أدعيةِ النبيِّ ﷺ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ)[10]. قال النووي: (أَمَّا العَجْزُ: فَعَدَمُ القُدرةِ على الخير، وقيلَ: هو تَرْكُ ما يَجِبُ فِعْلُهُ، والتسويفُ بِهِ، وكلاهُمَا تُسْتَحَبُّ الإِعَاذَةُ مِنْهُ)[11].
ومِنْ علاجِ التسوِيف: تَرْكُ الأَمَانِي[12]؛ فهي تُخَدِّرُ الهِمَم، وتَدْفَعُ النِّعَم![13] قال ﷺ: (العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتَمَنَّى على الله)[14]. قال ابنُ القَيِّم: (المُتَمَنِّي مِنْ أَعجَزِ الناسِ وأَفلَسِهِم؛ فإنَّ التَّمَنِّيَ: رَأْسُ أَمْوَالِ المَفَالِيسِ، والعَجْزُ: مِفتاحُ كُلِّ شَرٍّ[15]، ولا يَرْضَى بالأَمَانِيِّ عنِ الحقائِقِ؛ إِلَّا ذَوُو النفوسِ الدنِيئةِ الساقِطَةِ!)[16].
ومِنْ أدويةِ التسويف: تَرْكُ الإصرارِ على المعاصي؛ قال تعالى -في وصف المتقين-: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. قال القُرطُبِي: (الإصرارُ: هُوَ التسويفُ. والتسويفُ أَنْ يَقُولَ: "أَتُوبُ غَدًا"، وهذا دعوَى النَّفْس، كيفَ يتوبُ غدًا، وغدًا لا يَمْلِكُهُ؟!)[17]. قال الحَسَن: (إِيَّاكَ والتسويفَ؛ فَإِنَّكَ بِيَوْمِكِ ولَسْتَ بِغَدِك)[18].
أَقُولُ قَولِي هذا، وأستَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
* * * *
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمدُ للهِ على إِحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ على توفِيقِهِ وامتِنَانِه، وأَشْهَدُ أَن لا إلهَ إِلَّا الله، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُه.
عِبَادَ الله: مِنْ كَمَالِ العَقْل: تَرْكُ التسويف، والنظَرُ في العَوَاقِب؛ قال العُلَماء: (مَنْ لا يَسْتَعِدُّ لما يجُوزُ وُقُوْعُه؛ فليسَ بِكَامِلِ العَقْل، مِثلَ: أنْ يَغْتَرَّ بِشَبَابِه، ويُسَوِّفَ التوبة، فَرُبَّما أُخِذَ بَغْتَةً؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ يَنْقَضِي بالتَّسْوِيف، ويَفُوتُ المقصود)[19].
ومَنْ تَمَادَى في تسويفِ الخَير؛ فَقَدْ يُعَاقَبُ بِحِرْمَانِه! قال ﷻ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[20]. قال ابنُ القَيِّم: (اللهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنَ الخَيرِ فَلَمْ يَنْتَهِزْهُ، بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَ قَلْبِهِ وإِرَادَتِهِ؛ عُقُوبَةً لَهُ! فَمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِله ورَسُولِهِ إذا دَعَاهُ؛ حَالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَلْبِهِ وإِرَادَتِهِ؛ فلا يُمْكِنُهُ الاستِجَابَةُ بَعْدَ ذلكَ)[21].
فَقَصِّرُوا الأَمَل، وبادِرُوا بالعَمَل، قَبْلَ حُلُولِ الأَجَل! ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[22].
************
* اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وزِدْ وبارِكْ على نبيِّكَ محمدٍ ﷺ، اللَّهُمَّ احْشُرْنا في زُمْرَتِه، وأَدْخِلْنَا في شفاعتِه، وأَحْيِنَا على سُنَّتِه، وتوفَّنَا على مِلَّتِه، وأَوْرِثْنَا عِلْمَه، وأَوْرِدْنَا حوضَه، وأَسْقِنَا بكأسِه شَرْبَةً لا نظمأُ بعدَها أبدًا، وارْزُقْنَا مُرافَقتَهُ في الفردوسِ الأعلى.
* اللَّهُمَّ ارضَ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين: أَبِي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعَلِيّ؛ وعن الصحابةِ والتابعِين، ومَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ إلى يومِ الدِّين.
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ والمُسلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّركَ والمُشرِكِين، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهمُومِينَ، ونَفِّسْ كَرْبَ المَكرُوبِين، واقْضِ الدَّينَ عَنِ المَدِينِين، واشْفِ مَرضَى المسلمين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا ووُلَاةَ أُمُورِنَا، ووَفِّقْ (وَلِيَّ أَمرِنَا ووَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وتَرضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِما لِلبِرِّ والتَّقوَى.
* اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لا إِلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الغَنِيُّ ونَحْنُ الفُقَراء؛ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ، ولا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِيْنَ.
* اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا؛ فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا.
* اللَّهُمَّ أَغِثْنَا غَيْثًا مُغِيْثًا، هَنِيْئًا مَرِيْئًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَار، عَاجِلًا غيرَ آجِل.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم ﴿ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة
https://t.me/alkhutab
[1] قال ابن الجوزي: (إيَّاكَ والتسويفَ؛ فَإِنَّهُ أكبرُ جُنُودِ إِبليس!). صيد الخاطر (206).
[2] تفسير ابن كثير (2/367).
[3] قال ابنُ القَيّم: (وفي الدعاءِ عن النبيِّ ﷺ: "اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمْر، والعزيمةَ على الرُّشْد"، وهاتَانِ الكلمتان؛ هُمَا جِمَاعُ الْفَلاح، وما أُتِىَ العَبْدُ إلا مِنْ تَضييعهِما، أو تضييعِ أحدِهِما، فما أُتِىَ أحدٌ إلا مِنْ بابِ العَجَلَةِ والطَّيْش، أو مِنْ بَابِ التهاونِ وتضييعِ الفُرْصَة؛ فإذا حَصَلَ الثباتُ أَوَّلًا، والعزيمةُ ثانيًا؛ أَفْلَحَ كُلَّ الفلاح). مفتاح دار السعادة (146). بتصرف
[4] رواه مسلم (118).
[5] مدارج السالكين (1/268). بتصرف
[6] رواه ابن ماجه (4171)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
[7] صيد الخاطر (363).
[8] انظر: فيض القدير، المناوي (5/320).
[9] قال ابنُ حَجَر: (يتولَّدُ مِنْ طُولِ الأملِ: الكَسَلُ عَنِ الطاعةِ، والتسويفُ بالتوبَةِ، والرغبةُ في الدنيا، والنسيانُ للآخرةِ، والقسوةُ في القلبِ). فتح الباري (11/237).
[10] رواه البخاري (6369)، ومسلم (2706).
[11] شرح النووي على مسلم (17/28). بتصرف
[12] قال تعالى: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ﴾. قال بعضُ المفسرين: (﴿وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ﴾: يعني بالتسويف). أدب الدنيا والدين، الماوردي (29).
[13] قال ابنُ القَيِّم: (والفرقُ بينَ الرجاءِ والتَّمَنِّي: أَنَّ التَّمَنِّيَ: يكونُ مع الكسلِ، ولا يَسْلُكُ بِصَاحِبِهِ طريقَ الجِدِّ والاجتهادِ. والرَّجَاءُ: يكونُ معَ بَذْلِ الجُهْدِ، وحُسْنِ التوكُّلِ؛ ولهذا أَجْمَعَ العارفونَ على أَنَّ الرجاءَ لا يَصِحُّ إِلَّا معَ العَمَل).
مدارج السالكين (2/37). بتصرف
[14] رواه الترمذي وحسنه (2459).
[15] زاد المعاد (2/326).
[16] مدارج السالكين (3/94).
[17] تفسير القرطبي (4/211).
[18] الزهد، هَنَّاد بن السَّرِي (1/289).
[19] صيد الخاطر (607). بتصرف
[20] وقال تعالى: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾: أي ما يشتهونَ منَ الإيمانِ والتوبةِ، والرجوعِ إلى اللهِ، والعملِ الصالح؛ وذلك أنهم اشتَهَوْهُ في وقتٍ لا تنفعُ فيه التوبة. انظر: تفسير ابن عطية (4/427).
[21] زاد المعاد (1/502-503). باختصار
[22] وفي هذا: التَّحْذِيرُ مِنَ التسويفِ؛ اِسْتِبْعَادًا لحلولِ الأَجَل، واشتغالًا بِطُولِ الأَمَل. انظر: عمدة القاري، العيني (8/279).
المرفقات
1762919462_التسويف (نسخة مختصرة).pdf
1762919462_التسويف (نسخة للطباعة).pdf
1762919462_التسويف.pdf
1762919462_التسويف (نسخة مختصرة).docx
1762919462_التسويف (نسخة للطباعة).docx
المشاهدات 512 | التعليقات 2
فضيلة الشيخ : خطبكم مميزة ومباركة
ولو رأيتم إضافة ( ملف وورد بدون صور ومربعات اصفراء) لأنها في الغالب تحذف ولا يحتاج لها الخطيب
فلو استحنتستم أن يكوم الملف لنص الخطبة فقط
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق