التضحية ويوم عرفة

د. منصور الصقعوب
1446/12/01 - 2025/05/28 11:19AM

التضحية ويوم عرفة

الخطبة الأولى                 8/12/1445هـ

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ أما بعد:

ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن، أبو الانبياء، سيد الأصفياء، إمام الحنفاء، ابتلاه ربه بأن لم يرزقه الذرية، ثم رزق بإسماعيل على كبر، شبّ الغلام فكان ملء سمعِ وبصرِ أبيه، وخادِمَهُ وسنَدَه، بنى معه البيت، ورفعا القواعد، وكان لديه حظياً مقرباً، ولا عجب فهو الولد .

ولحكمةٍ أرادها ربك امتُحِنَ إبراهيمُ من ربِّ العالمين امحتاناً عظيماً وابتُلي ابتلاءً مبيناً، كان البلاء حين جاء الأمر من أرحم الراحمين، بأن اذبح ولدك يا إبراهيم!

لم يكن هذا الأمرُ تلقاه إبراهيم من ربه كفاحاً، ولا تلقاه من جبريل، بل كان رؤيا منام -ورؤيا الانبياء وحي- فما تردد عليه السلامُ ولا تلكأ، نعم، هو جمّارة القلب وريحانة الفؤاد، يذبحه وبالسكين!، لكنه أمر رب العالمين.

جاء ابراهيم على كبر سنّه يحث الخطى إلى ابنه، ويقول له بكل ثقة وعزيمة: يا إسماعيل" إني أرى في المنام أني أذبحك "

لم يكن ردُّ الابنِ الصالح بأغربَ من موقفِ أبيه: اصنع ما شئت، لن تجدني إلا مسلِّماً مذعناً ولك على امتثال أمر الله معيناً " يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " عندها استعد الأب وابنُه وأَضجَعَ الأبُ ريحانته، هذا حدَّ شفرته وللجبين تلّه، وهذا أسلمَ لله أمره، بقيت ساعة الصفر، أن تتحرك السكين لتقطع منه الوتين، فياله من موقف لا كالمواقف.

حينها، وفي تلك الأثناء، وقبل الذبح، ولما نجح ابراهيم في الابتلاء، وتجلى أن ليس في قلبِه إلا ربُّه ولا يزاحِمُ حُبَّه لخالِقه حُبّ، فلأجل الله يهون كل شيء، جاء الأمر من رب العالمين أن قد جُزت الابتلاء المبين، فأناله ربه جزاء تضحيته وسامَ خليلِ الرحمن، وفدى ابنه بالقربان، وقال الرحمن في محكم التبيان (وناديناه أن يا ابراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * وفديناه بذبح عظيم ) .

عباد الله: إن ابراهيم ; قد أبلى في تضحيته فصار كما قال ابن القيم عنه: ولدُه للقربان، وجَسدُه للنيران، ومالُه للضيفان، فاستحق أن يكون خليل الرحمن، وهكذا يكون العظماء، وما زال الناس يذبحون في كل عيدٍ أضاحيهم تقرباًَ لربهم واقتداءً بنبيهم واستشعاراً لتضحية أبيهم إبراهيم ;

وجاء مِن بعده أقوامٌ أبدعوا في التضحية، فنالوا من ربهم التزكية، محمد ;، كان يحب مكّة كثيراً، فهي بلدته التي عاش فيها وترعرع، ومع هذا حين استدعى الأمرُ ضحى ببلده في سبيل أن ينشر دعوته ووقف عليها وقال " والله إنك لأحب البلاد إلى الله وإلى ولولا أن قومك أخرجوني منكي ما خرجت" لم يردَّهُ حبُّ الديار عن همّ نشر الرسالة.

ومِنْ بِعد كل هذا ظلّتْ أمةُ الإسلام أُمَّةَ التضحيات، فكم قدمت من الشهداء، وكم بذلت من الأموال، وكم سطر أتباعُها من البطولات، مضحين لأجل الله سبحانه.

كم من تاجرٍ ضحى بكثير من ماله المحبوب له، وبذله في مرضات ربه، حين قاسم الفقراء ماله، كم من غنيٍ ضحى بمالٍ تعب في جمعه بذلاً لأبواب الخير، أو لنصرة المستضعفين، وسدّ جوعة اللاجئين.

وصور التضحية لا تتناهى، والنماذج لا تنقضي، وفي الأمة خيرٌ كبير وتضحياتٌ عظيمة، في كل مجالٍ من مجالات الخير.

يا كرام: ونحن في موسم الأضحية، فما أحوجنا لاستلهام درس التضحية، أجل، التضحية مَعلم راقٍ، ودرسٌ عظيم، وعملٌ لا يتمثله إلا الكرام من الناس، فهل أنت مستعدٌ للتضحية ؟.

دعني إذن أقولُ لك: ثمة أمورٌ من حولك تحتاج لحزمِ حازمٍ، وتضحية عازم.

رُفقتك التي تؤزك للعصيان، وتباعدك عن الايمان، أَلِفتهم حتى صرت لا تفارقُهم، ليسوا أكرم من ابن ابراهيم ;، فضحِّ بهم لأجل ربك وإبقاءً على دينك.

وكم من امرئٍ ما ردّه عن الخير إلا رفقة الشر، وإن لم يضح اليوم بهم فربما قال غداً: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين)

مكسبك الذي يدخل عليك من وجهٍ محرم، إما ربا أو غيره، والله لن تجد فيه بركةً، مهما كثر، فضح به إرضاءً لمولاك، وتحرّ الحلال في ربحك.

راحتُك ضحِّ بها في سبيل نشر دينك وإسعاد الناس وهداية الحيارى، فالدعوة والعلم يحتاجان منك لعناءٍ ومفارقةِ الدعة، لكنها تضحيةٌ لأجل الأمة، فطوبى لك.

ملذّاتك مِن سمعٍ محرم، ونظرٍ مذموم، وخطوةٍ آثمة، وسيجارةٍ محرقة، قد آن لك أن تضحي بها كلها، وإن هوتها نفسك، لأجل خالقك، أجل يا موفق، فما بالنا نضحي بأنعامنا، ولا نضحي برغباتنا المحرمة، وآثامنا الموبقة.

لا تقل: اعتدت هذا الذنب فلن أقدر على تركه، أحببت هذا الأمر فلن أطيق مباينته، فليس ذلك أحبَّ ولا أغلى على ابراهيم من ابنه الذي أراد أن يضحي به لأجل أمر ربه، عليه صلوات ربنا وسلم .

وبعد : فعظيم أن تضحي بشاتك، وأجمل منه مع ذلك أن تضحي بكل خلَّةٍ مستكرهة، وخصلةٍ ذميمة، تضحي بها لأجل ربك، وربُك يستحق منك كل شيء، فضح لأجله، وستجد أنه سبحانه هو الكريم حقاً، يعطي على القليل الكثير ومن تقرب منه ذراعا تقرب الرب منه باعاً.

اللهم صل وسلم وبارك على محمد

 

الحمد لله وحد أما بعد:

فيا من قعدتم في الديار، قد أبقى الله لكم خيرَ أيامِ الدنيا، العشرَ كلها، مضى الكثير وبقي بعضٌ، فماذا فعلنا فيها.

بين أيديكم أشرفُ يومين في الدنيا، عرفةُ، ويومُ النحر.

أما عرفةُ فالصوم والذكر والدعاء، يومٌ تكفر به خطايا سنتين، وساعاتٌ أغلى من الذهب، فمغبون مغبون من فرط فيها « مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ"

في يوم عرفة أكثر من الدعاء فـ(خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ) في يوم عرفة أكثر من التكبير فذاك هدي الصالحين

في يوم عرفة أكثر من التهليل، ولك في المصطفى عليه السلام الأسوة (خَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي –أي في عرفة-: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍٍ قَدِيرٌ)

يا من بقيت فلم تحج، ستدركُ يومَ النحر، وخاتمةَ العشر، وأفضلَ أيام الدهر في حقِّ القاعدين، والذي قال فيه سيد المرسلين« إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ » رواه أبو داود، ففيه تقرّب لربك بصلاة العيد، فلتلك الصلاة فضيلةٌ شريفة، وبذبح الأضاحي إن قدرت، فلن تتقرب إلى الله يوم النحر بشيءٍ أحبَّ إليه من ذبح الأضاحي وإراقة الدماء.

وبعد: فكم من جالسٍ حبسه العذر، وما جلس الحجاج مجلساً ولا ارتقوا مرتقاً، إلا وهو معهم في الثواب، وفضل الله واسع، وقد قال ق في أشد الغزوات مشقة " إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا نزلتم وادياً إلا كانوا معكم" قالوا وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر"

اللهم تقبل من الحجاج حجهم، ومن أهل الأمصار ضحاياهم

 

المرفقات

1748420390_التضحية ويوم عرفة.docx

1748420390_التضحية ويوم عرفة.pdf

المشاهدات 147 | التعليقات 0