الذوق العام

هلال الهاجري
1447/04/24 - 2025/10/16 08:24AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد:

تَأَمَلُوا فِي هَذَا الحَديثِ جَيِّدَاً يَا أَهَلَ الإسلامِ، لِنَعلَمَ خُطُورَةَ التَّسَاهُلِ فِي الذَّوقِ العَامِ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتىَّ يَتَسَافَدَ النَّاسُ في الطُّرُقِ ‌تَسَافُدَ ‌الحَمِيرِ)، أَيْ: يَرتَكِبُونَ الفَاحِشَةَ فِي الطَّرِيقِ دُونَ حَيَاءٍ وَلا سِترٍ مِثلَ الحَمِيرِ، فَتَعجَّبَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ لَكَائِنٌ؟، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (نَعَمْ، لَيَكُونَنَّ)، وَهُنَا قَد يَسألُ السَّائلُ: فَأَينَ النَّهيُّ عَن المُنكَرِ مِن أَهلِ الإيمَانِ؟، وَأَينَ احتِرامُ النَّاسِ للذَّوقِ العَامِّ فِي ذَلكَ الزَّمَانِ؟، وَبَيَانُ ذَلِكَ يُوضِّحُهُ حَديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَفْنَى هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَيَفْتَرِشَهَا فِي الطَّرِيقِ، فَيَكُونَ خِيَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ يَقُولُ: ‌لَوْ ‌وَارَيْتَهَا وَرَاءَ هَذَا الْحَائِطِ)، فَنَعُوذُ بَاللهِ تَعَالى عَلَّامِ الغُيوبِ، مِن ذَهَابِ الإيمانِ ومَوتِ القُلوبِ.

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، لَن يَصِلَ المُجتَمَعُ إلى هَذَا الحَالِ دُونَ مُقَدِّمَاتٍ أَو أَسبَابٍ، وإنَّمَا يَصِلُ إليهِ عِندَ التَّفريطِ فِي الدِّينِ والحَياءِ والآدَابِ، ولِذَلِكَ كَانَ مِن وَاجِبِ الجَمِيعِ المُحَافَظَةُ عَلى الذَّوقِ العَامِ، وهُوَ مَجمُوعَةُ السُّلُوكِيَاتِ وَالآدَابِ التي تُعَبِّرُ عَن قِيَّمِ مُجتَمَعِ الإسلامِ، مِن حَيثُ التِزَامُ مَبَادِئِ الشَّريعَةِ الحَكِيمَةِ، ومُرَاعَاةُ أَعرافِ المَجتَمَعِ السَّلِيمَةِ.

فلَقَد رَاعى الإسلامُ الذَّوقَ فِي جَميعِ الأَمَاكِنِ والأَحوالِ، وتَعَالُوا لِنَضرِبَ المِثَالَ حَتَّى يَتَّضحَ المَقالُ.

جَاءَ الإسلامُ بِعَدَمِ إيذاءِ الآخَرِينَ بالرَّائحَةِ الخَبيثَةِ فِي أَمَاكِنِ الاجتِمَاعاتِ، بَل قَد يَكونُ ذَلِكَ سَبَباً لِمَنعِهِ مِنَ الحُضُورِ لأَمَاكِنِ الخَيرِ والعِبَادَاتِ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ)، فَإذا كَانَ هَذَا فِي أَكلِ شَيءٍ مِنَ المُبَاحَاتِ، فَكِيفَ بِمَن آذى النَّاسَ بشُرِبِ شَيءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، ولِذَلِكَ كَانَ مَن الذَّوقِ العَامِ عَدَمُ التَّدخِينِ فِي الأَمَاكِنِ العَامَّةِ.

وَكَذلِكَ جَاءَ الإسلامُ بِالمُحَافَظَةِ عَلى الذَّوقِ فِي اللِّباسِ، فَنَهَى أَن تُكشَفَ العَورَاتُ أَمَامَ النَّاسِ، مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فَرَأَى فَخِذَهُ خَارِجَةً، فَقَالَ: (‌غَطِّ ‌فَخِذَكَ، ‌فَإِنَّ ‌فَخِذَ ‌الرَّجُلِ مِنْ عَوْرَتِهِ)، ولِذَلِكَ كَانَ مِنَ الذَّوقِ العَامِ الذي تَتَابَعَتْ عَليهِ الأجيَالُ، عَدَمُ لِبسِ مَا تَظهُرُ مِنهُ عَوراتُ النِّساءِ والرِّجَالِ.

وَأيضَاً جَاءَ الإسلامُ بَمنعِ رَفعِ الأَصواتِ إن كَانَ فِيهَا تَشويشٌ عَلى الآخَرينَ، حَتى لَو كَانَ ذَلِكَ فِي قِراءةِ كَتَابِ رَبِّ العَالَمِينَ، اعتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ في المَسجِدِ، فَسَمِعَهُم يَجْهَرُونَ بِالقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّترَ وَقَالَ: (أَلا إنَّ كُلَّكُم مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلا يُؤذِيَنَّ بَعضُكُم بَعضَاً، وَلا يَرفَعْ بَعضُكُم عَلى بَعضٍ في القِرَاءَةِ)، فَإذا كَانَ مُرَاعَاةُ الذَّوقِ العَامِ فِي النَّهيِّ عَن الجَهرِ بالقُرآنِ، فَكِيفَ يَكونُ الإيذاءُ بِرفَعِ أَصواتِ المَعَازِفِ والأَلحَانِ؟.   

بل وجَاءَ الإسلامُ بِحِفظِ حُقُوقِ الجَميعِ فِي الشَّوارعِ والطُّرُقَاتِ، وسَدَّ ذَرَائعَ مَا قَد يَقَعُ فِي الذَّوقِ العَامِ مِن مُخَالَفَاتٍ، فَقَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ ‌فَأَعْطُوا ‌الطَّرِيقَ حَقَّهُ)، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)، فَغَضُّ البَصَرِ فِيهِ حِفظُ النِّسَاءِ والخُصُوصِيَّاتِ، وَكَفُّ الأَذَى فِيهِ مَنعُ الأَقوالِ والأَفعَالِ المُؤذِيَاتِ، وَرَدُّ السَّلامُ فِيهِ نَشرُ المَحَبَّةِ بَينَ النَّاسِ والوِئامِ، والأَمرُ بالمَعرُوفِ والنَّهيُ عِن المُنكَرِ فِيهِ الحِفَاظُ عَلى الذَّوقِ العَامِ، بِالأَمرِ بِكُلِّ مَا يُوافقُ الشَّريعَةَ والآدَابَ، والنَّهي عَنِ كُلِّ مَا قَد يَفتحُ لِلعَابثِينَ البَابَ.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، أقولُ قولي هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ الكَريمِ الوَهَّابِ، الغَفُورِ التَّوَّابِ، أَجزَلَ للطَّائعِينَ الثَّوابَ، وَأَنذَرَ العَاصِينَ شَدِيدَ العِقَابِ، يَجتبي إليهِ مَن يَشَاءُ، وَيَهدي إليهِ مَن أَنَابَ، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أنَّ نَبيَّنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَعَلَى آلِه وَصحبِهِ خَيرَ آلٍ وَأكرمَ أَصحَابٍ، أَمَّا بَعدُ:

لَقَد جَعَلَ الإسلامُ ضَوَابِطَ شَرعيَّةَ فِي أَمَاكِنِ الاجتِمَاعَاتِ، بِأَن تَكونَ خَالِيَّةً مِمَّا يُخِلُّ بالآدَابِ أَو يُوقِعُ فِي المُحَرَّمَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، رُفِعَ إلى عُمرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ رَحِمَهُ اللهُ قومٌ شَرِبُوا الخَمرَ؛ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِم، فَقِيلَ: فِيهِم فُلانٌ صَائمٌ، فَقَالَ: ابدَؤوا بِهِ، أَمَا سَمِعتَ اللهَ يَقُولُ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، ‌فَجَعَلَ ‌حَاضِرَ ‌المُنكَرِ ‌كَفَاعلِهِ، ولِذَلِكَ الجُلوسُ فِي الأَمَاكِنِ المَليئةِ بِمَا يُخَالفُ الشَّرعِ والذَّوقِ العَامِ، خَطِيرةٌ عَلى دِينِ الإنسَانِ وأَخلاقِهِ وسُمعَتِهِ بَينَ الأَنَامِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ المَقَاهي والصَّالاتِ المُجرِمَةِ، واحفَظْ نَفسَكَ وَأَهلَكَ عَنِ هَذهِ المَجَالسِ الآثِمَةِ.    

أيُّهَا الأَحِبَّةُ .. المُجتَمعُ الإسلاميُّ يَنبغِي أَن يَكونَ مُختَلِفَاً عَن سَائرِ المُجتَمَعَاتِ، يَظهَرُ فِيهِ الحَيَاءُ والتَّعَاونُ والاحتِرامُ وَجَميلُ الصَّفَاتِ، فِي اللِّباسِ والأَفعَالِ والكَلامِ والتَّعَامُلِ وآدَابِ الذَّوقِ العَامِ، فَكَم كَاَنتْ هَذِه المَظَاهِرِ الجَميلَةِ سَبَبَاً في اعتِنَاقِ النَّاسِ الإسلامَ، فَنحنُ اليَومَ فِي مُفتَرقِ طُرقٍ مَع الانفِتَاحِ لِلعَالمِ والسِّيَاحَةِ وتَنظيمِ الفَعَاليَّاتِ الدَّوليَّةِ، فإمَّا أَن نُحَافِظَ عَلى ذَوقِنَا العَامِ فَيُقَابِلُهُ العَالَمُ كُلُّهُ بِتَقدِيرٍ واحتِرامٍ، وإمَّا إذا فَرَّطنَا فِيهِ فهَلْ عَلى مَن أَرَانَا مَا نَكرَهُ مِن مَلامٍ؟.

اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ ثَبِّتنَا بِقَولِكَ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، اللهمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقواهَا، وَزَكِّهَا أَنتَ خَيرُ مَن زَكَّاهَا، أَنتَ وَليُّهَا وَمَولاهَا، اللهمَّ آتِنَا في الدُّنيَا حَسنةً، وَفي الآخرةِ حَسنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهمَّ احفظنَا بِالإسلامِ قَائمينَ، وَاحفظنَا بِالإسلامِ قَاعِدينَ، وَاحفظنَا بِالإسلامِ رَاقدِينَ، ولا تُشمِتْ بِنَا أَعدَاءً ولا حَاسدِينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّركَ والمشركينَ، وَاحمِ حَوزةَ الدِّينِ، اللهمَّ أَصلِحْ أَحوَالَ المسلمينَ، وَانصُرْ عِبادَكَ المؤمنينَ في كُلِّ مَكَانٍ، اللهمَّ احفظْ لبِلادِ المُسلِمِينَ دِينَهَا وَعَقيدَتَها وَأَمنَهَا وَعِزَّتَها وَسِيَادَتَها، اللهمَّ احفظهَا مِمَنْ يَكَيدُ لَهَا، اللهمَّ وَفِّقْ حُكَّامَهَا وَأَعوَانَهم لِمَا فِيهِ صَلاحُ أَمرِ الإسلامِ وَالمسلمينَ، وَبَصِّرهُم بِأَعدَائهم يَا حَيُّ يَا قَيومُ، اللهمَّ اغفِرْ للمُسلمينَ وَالمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنهُم وَالأمواتِ، إنَّكَ سَميعٌ قَرِيبٌ مُجيبُ الدَّعوَاتِ.

المرفقات

1760592265_الذوق العام.docx

1760592272_الذوق العام.pdf

المشاهدات 285 | التعليقات 0