الرقية الشرعية بين منهج النبوة وتجاوزات الرقاة

د مراد باخريصة
1447/01/18 - 2025/07/13 14:48PM

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، وأذن لعباده بالتداوي والاستشفاء بكلامه العظيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.

أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن أمر قد انتشر ذكره في المجالس، وذاع في وسائل الإعلام، وتعلقت به قلوب كثير من الناس، وهو "الرقية الشرعية".

نعم، تلك الرقية التي جاءت بها النصوص من الكتاب والسنة، فمارسها رسولنا صلى الله عليه وسلم، ورقاه جبريل عليه السلام، ورقى بها صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام رضي الله عنهم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك».

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رقَى نفسه ورقى أهله، وكان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة».

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أجمع العُلماءُ على جواز الرُّقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يُعرفُ معناه من غيره، وأن يُعتقد أن الرُّقية لا تُؤثِّر بذاتها؛ بل بذات الله تعالى".

 

فيا عباد الله، الرقية الشرعية دواء نافع، وأمر مشروع، لكن بشرط أن تبقى على هدي النبوة، وألا تتحول إلى تجارة، أو وسيلة للشركيات والبدع والانحرافات.

لقد أصبحت الرقية في زماننا تُمارس بغير ضوابط، وتُرتكب فيها تجاوزات عظيمة، منها ما يضر العقيدة، ومنها ما يُفسد العقول، ويضلل الناس.

فمن تلك الانحرافات: الاستعانة بالجن في معرفة المرض وأسبابه، وهذا باب من أبواب الشرك والدجل العظيم، فيأتي المريض إلى هذا المشعوذ الدجال فيطلب منه معلومات معينة كاسم الأم ونحوه، ثم يدعي رجمًا بالغيب معرفة الغائب ورد الضائع ومعرفة المستقبل، يقول صلى الله عليه وسلم محذرًا من ذلك: "مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقَه بما يقولُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".

ومن الانحرافات في باب الرقية التعلق بالراقي، وتخصيص ماء معين أو آيات معينة بغير دليل، وجعل الشفاء مرتبطًا بشخص دون غيره، وكذلك الرقية الجماعية التي تتحول إلى مظاهر صراخ وفوضى، لا تمت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم بصلة.

أو العلاج بالصعق الكهربائي، والضرب، والإيذاء الجسدي، وكل ذلك مخالف لرحمة الإسلام وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

عباد الله، الرقية الشرعية عبادة، يجب فيها الإخلاص لله، والتجرد من الهوى، والاتباع لا الابتداع. فليحذر المسلم من الغلو فيها، كما يحذر من تركها بالكلية.

إننا بحاجة إلى تصحيح المفاهيم، وتربية الناس على أن الشفاء من الله، وأن الرقية سبب، وليست هي الشافي فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.

 

إن من واجب الأئمة والخطباء والمربين أن ينبهوا الناس إلى هذه الانحرافات، ويربطوا قلوبهم بالله لا بالرقاة، ويعلموهم أن خير من رقى نفسه هو أنت، حين تتوكل على الله وتقرأ كتابه بتدبر ويقين.

فالرقية الشرعية من أعظم أسباب الشفاء، لكن الناس اليوم بين إفراط وتفريط: فريق ترك الرقية كليًا، واعتمد فقط على الأدوية، ونسي أن الشفاء بيد الله.

وفريق آخر غلا فيها حتى صارت دينًا جديدًا! تُتخذ وسيلة للربح، أو للسيطرة على العقول والبيوت! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" [رواه البخاري ومسلم].

أي: لا يُكثرون من طلب الرقية من غيرهم، وإنما يرْقون أنفسهم، ويتوكلون على الله حق التوكل.

فيا عبد الله، لا تنتظر الراقي، اقرأ بنفسك، وداوم على الأذكار، وتحصّن، وخذ بالأسباب، ولا تُعلّق قلبك بالبشر، بل علّقه بالله وحده.

أيها المؤمنون، في زماننا هذا انفتحت أبواب كثيرة باسم "الرقية الشرعية"، لكن بعض هذه الأبواب قد صارت أبوابًا للدجل، أو أبوابًا لطلب الدنيا، لا للهداية والشفاء.

لقد انتشرت الرقى الجماعية، وأصبحت بعض البيوت تُحوّل إلى "مصحات روحانية"، وتُطفأ فيها الأنوار، وتُشغّل مكبرات الصوت، ويُتلى القرآن بطريقة أشبه بالاحتفالات، لا بالعبادات! بل يتمايل البعض ويسقط آخرون، وتُرفع الأصوات، ويختلط الأمر على الناس.

والأسوأ من ذلك: راقٍ يُمسّ النساء بحجة إخراج الجن! وآخر يضرب المرضى! وآخر يطلب أرقام الهواتف والصور الخاصة! وبعضهم يتقاضى مبالغ طائلة مقابل قراءة آيات!

إن هذه الأفعال ليست من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، بل إن البدعة في الرقية هي من البدعة في الدين.

وما إن تُفتش وراء كثير من هؤلاء حتى تجد أنهم جهّال لا علم لهم، أو طلاب مال لا طلاب علم، يستغلون حاجة الناس، وخوفهم، وضعفهم، لتحقيق المكاسب المادية والدنيوية.

أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يرقى بكلمات قليلة، يقرأ وينفث، ويمسح بيده اليمنى على المريض، ويقول: "أذهب البأس رب الناس، اشفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما" [رواه البخاري].

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام : 17]، ويقول جلّ وعلا: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس : 107].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المسلمون، لا مانع أن يرقى الإنسان غيره، ولكن لا بد من الضوابط الشرعية ومنها: أن يكون الراقي ثقةً في دينه وسلوكه، وأن يرقي الناس وفق النصوص، لا وفق البدع والمحدثات، وأن يُذكّر المريض بأن الشفاء من عند الله، لا من عنده.

 

والأفضل والأكمل أن ترقى نفسك بنفسك، فهذا أعظم بركة، وأشد أثرًا، وأقرب إلى التوحيد، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44].

فيا أيها الآباء، علموا أبناءكم الأذكار، وحصّنوا بيوتكم بسورة البقرة، فالبيت الذي تُقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان.

ويا أيها الشباب، لا تجروا خلف كل راقٍ في قناة أو منصة، فكم من جاهل أضل الناس، وكم من فاجر لبس ثوب الدين بغير حق!

إنَّ الرقية الشرعية عبادة عظيمة، ينبغي أن تُمارس بعقيدة صحيحة، وعلم شرعي، واتباع للسنة، لا بهوى أو عادة أو طمع ولنتيقن دائما أنه {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 51].

نسأل الله أن يشفينا ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وشفاءً لنا من كل داء.

وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

1752407311_الرقية الشرعية بين منهج النبوة وتجاوزات الرقاة.doc

1752407317_الرقية الشرعية بين منهج النبوة وتجاوزات الرقاة.doc

المشاهدات 27 | التعليقات 0