الستر في زمن الفضائح الرقمية

د مراد باخريصة
1447/01/18 - 2025/07/13 14:43PM

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يحبّ الحياء والستر، ويكره الفجور والمجاهرة بالمعاصي، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الأحبة في الله، حديثنا اليوم عن خُلُقٍ عظيم من أخلاق الإسلام، خُلُقٍ غائبٍ في زمن ضجيج الفضائح، وصخب الكاميرات، وضوضاء الانستقرامات، وثرثرة التغريدات، وهرج ومرج المنشورات التي تهتك الأسر وتفضح المجتمعات!

إنه الستر… الذي قال فيه النبي ﷺ: "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة" [رواه مسلم].

عباد الله، أليس من المضحك المبكي أننا في زمان يُنشر فيه الخطأ أسرع من البرق؟

خطأ صغير قد يصوّره أحدهم بهاتفه وينشره خلال دقائق، ليصل إلى آلاف وربما ملايين، يضحكون ويستهزئون وينشرون، ثم ينامون! لكنهم لا يدرون أنهم في كل لحظة نشر، يزيدون من سوءاتهم عند الله.

فأين خُلق الستر الذي حث عليه ديننا الإسلامي الحنيف؟ وأين الخوف من الله؟ وأين الاستحياء من خلق الله؟ وأين نحن من حديث النبي ﷺ:"كل أمتي معافى إلا المجاهرين"؟!

يبيت الرجل –أو المرأة– يفعل الذنب، وقد ستره الله، لكنه يخرج في اليوم التالي ليريه للناس على شكل منشور، أو قصة، أو صورة، أو حتى "ترند"!

حتى إن بعض الفتيات ينشرن صورهن بطريقة تفتن، ويكتبن فوقها: "أنا حرّة"!

والبعض ينشر فيديوهات أسرية خاصة، أو خلافات زوجية، أو أسرار الطلاق، ويظن أنه شجاع أو ناصح… وما هو إلا هتاك للستر!.

أيها المسلمون: إذا كان الستر مطلوبًا في عهد النبوة، فقد أصبح واجبًا مضاعفًا في زمن الإنترنت.

ففي الزمن الماضي: إذا زلّ الإنسان، علم به القليل، أما اليوم: فزلّته تصل إلى القاصي والداني، في دقائق، بسبب كاميرا، وتغريدة، وتعليق، وسوء نية!

هل تعلمون أن كثيرًا من حالات الطلاق اليوم سببها منشورات، أو صور خاصة، أو تسريبات من المحادثات؟

أين خُلق الستر بين الزوجين؟ أين حديث النبي ﷺ:"إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرها" [رواه مسلم]؟

هل تعلمون أن أطفالنا اليوم يتربّون على فضائح التيك توك، وعلى مقاطع تصور المعاصي كأنها إنجازات؟

بل وأحيانًا يُظهر المذنب ذنبه في صورة مزاح أو تمثيل ساخر، فينشأ الجيل على الاستهانة بالستر! يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور : 19].

ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت : 19-23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الخطبة الثانية:

عباد الله، من أراد أن يُستَر عليه يوم القيامة، فليستُر على نفسه وعلى غيره اليوم! يقول الرسول ﷺ: "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا يستر عبد عبدا في الدّنيا، إلّا ستره الله يوم القيامة" رواه مسلم.

وإن مما يزيد الطين بلّة، أن بعض الصفحات والمشهورين يتاجرون بالفضائح! ويبحثون عن زلة فنان، أو عورة داعية، أو خلاف بين زوجين، أو صورة مريبة لفتاة… ثم ينشرونها في سبيل اللايكات، والمشاهدات، والمال!

أيستحق المال أن تفضح مسلمًا؟ أيستحق المتابعون أن تهتك عرضًا؟ أتدري أنك لو تبت، قد يغفر الله لك، لكن إن لم يتب من تأذى منك، فخصمك يوم القيامة هو هو!

يقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم؛ فإنّه من اتّبع عوراتهم، يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته"

وهنا أوجه رسالة إلى الأسرة، فأقول أيها الأزواج: إن من أعظم صور الستر: ستر الزوجين على بعضهم البعض، خاصة بعد الطلاق.

كثير من حالات التشهير والتشويه بين الأزواج اليوم سببها الطلاق، وكأن الستر ينتهي بانتهاء النكاح! وتناسى الزوجان قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة : 229]، وتناسوا قوله جلّ وعلا: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة : 237].

اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.

اللهم اجعلنا من أهل الحياء والستر، وارزقنا طهارة الظاهر والباطن، وحلاوة الإيمان.

وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

1752406979_الستر في زمن الفضائح الرقمية.doc

المشاهدات 28 | التعليقات 0