السكينة

تركي بن عبدالله الميمان
1447/02/05 - 2025/07/30 10:15AM

خطبة الأسبوع

السكينة

 

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ، ونَستَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ: فأُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ U؛ فَهِيَ مَصدَرُ الحِمَايَةِ الرَبَّانِيَّة، والمَعِيَّةِ الإلهيَّة! قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.

عبادَ الله: إنها منزلةٌ شريفةٌ مِن منازلِ اليقين، وموهبةٌ من ربِّ العالمين، إنها الأُنْسُ الإلهي، والمَدَدُ الربَّاني، وهي سَلْوَةُ المَحزُون، ومُذْهِبَةُ الهُموم؛ إنها (السَّكِينَة!).

وأَصْلُ السكينةِ: طُمَأْنِينَةُ القلبِ واستقرارُه، وسُكُونُه عند اضطرابِه؛ فيُوجِبُ له زيادةَ الإيمان، وقوَّةَ اليقين والثبات؛ فلا ينزعجُ القلبُ بعد ذلك[1]؛ قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾.

وهذه السَّكِينَةُ: جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ، يؤيدُ اللُه بها عبادَ الرحمن، في مقابلةِ جُندِ الشيطان! قال U: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ﴾.

وصاحِبُ السكينة: تَسْكُنُ روحُه إلى الحق؛ ويَرَى الأمورَ على حقيقتِها؛ فلا تَنطَلي عليه الشُبُهات، ولا تستعبِدُه الشهوات، ولا يجزَعُ في الكريهات! قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[2]. قال علقمة: (هو الرجُلُ تُصِيبُه المصِيبةُ، فيعلَمُ أنها من عندِ اللهِ؛ فَيَرضَى ويُسَلِّم)[3].

ومراقبةُ العبدِ رَبَّهُ ﷻ: هي أساسُ السكينة[4]؛ قال ﷺ -في تعريف الإحسان-: (أَنْ تَعبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فإنَّهُ يَرَاكَ)[5]. قال ابنُ القيِّم: (المراقَبةُ: أساسُ الأعمالِ القَلْبِيَّةِ كُلِّهَا، وعَمُودُها الذي قِيَامُهَا بِه، ولقد جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ أُصولَ أعمالِ القلبِ، وفُرُوعَهَا كُلَّهَا في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وهي قولُه ﷺ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تَرَاهُ»)[6].

ومَن تَعَرَّفَ إلى اللهِ في الرَّخَاء؛ نَزَلَتْ عليه السكينةُ في الشِّدَّةِ والبلاء! كما وقَعَ ذلك لنبيِّنا ﷺ، حينما كان هُوَ وصاحِبُه في الغار؛ والعَدُوُّ فوقَ رؤوسِهِم، لو نَظَرَ أحدُهم إلى ما تحتَ قدَمَيهِ لرآهُما![7] ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾. قال ابنُ القيِّم: (السكينةُ التي نَزَلَتْ عليه ﷺ في موَاقفِه العظيمةِ؛ وأعداءُ اللهِ قد أحاطُوا بِه؛ فهذه السكينةُ أَمْرٌ فوقَ عُقُولِ البَشَر، وهي من أعظَمِ مُعجزاتِه ﷺ، فلو لم يكن لِلرُّسُلِ مِنَ الآياتِ إلَّا هذه وحدَها؛ لكَفَتهُم!)[8].

والعَبدُ محتاجٌ إلى السكينةِ عندَ ورودِ الوساوسِ والمخاوف، وعند هجومِ المصائبِ والكوارث؛ ولا يكونُ ذلك إلَّا بالصبرِ واليقين، والتسليمِ لربِّ العالمين!  فإنَّ مِنْ أعظَمِ أسبابِ السكينة: الرِّضَى عن اللهِ في جميعِ الحالاتِ[9]. قال ابنُ مسعودٍ t: (إِنَّ اللهَ جَعَلَ الفرحَ في اليقينِ والرِّضَا، وجَعَلَ الهَمَّ والحُزْنَ في الشكِّ والسُّخْط)[10].

ومَن عرَفَ اللهَ بأسمائِه وصفاتِه: اطمأنَّتْ نفسُه لِعَظَمَتِه، وخشعَتْ لِعِزَّتِه وهَيبَتِه، حتى تَعْلُوهُ السكينةُ والوقارُ في قلبِه ولسانِه وجوارحِه![11] قال عليُّ t: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ على لِسَانِ عُمَرَ)[12]. يقول السعدي: (السكينة: هي مِن نِعَمِ اللهِ العظيمة، وهي ما يَجْعَلُه اللهُ في القلوبِ في أوقاتِ الشدائدِ والزلازل، مما يُثَبِّتُها ويُسَكِّنُها؛ وتكونُ على حسبِ معرفةِ العبدِ بِرَبِّه، وثِقَتِه بِوَعْدِه)[13].

ومِنْ أسبابِ السكينةِ: التمسكُّ بـالعقيدةِ الإسلامية؛ فهيَ تُعطِي المسلمَ (خارطةَ الطريق) لحياتِه في الدنيا والآخرة: فهو يَعرِفُ مِنْ أينَ أتى؟ ولماذا أتى؟ وإلى أينَ يَتَّجِه؟ وما الزادُ الذي يحتاجُه في هذا الطريق! ومِنْ هذه المعرفةِ الإيمانية: تختفي مشاعرُ القلقِ والشكِّ والحَيْرَة! ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا على صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾.

وكثرةُ الذِّكْرِ، وصُحبَةُ الذاكرِين: تَبْنِي قواعِدَ السكينة، وتَستَدعِي الرحمةَ والطمأنينة[14]؛ قال I: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قلوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، قال ﷺ: (لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ U؛ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحمَةُ، ونَزَلَتْ عليهم السكينةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)[15].

والقرآنُ الكريم: مَنْبَعُ السكينةِ؛ وذلكَ لصفاءِ القلبِ بِنُورِ القرآنِ، وذهابِ ظُلْمَتِه[16]. قال البراءُ بنُ عازب t: (كانَ رَجُلٌ يَقرَأُ سُورَةَ الكَهفِ، وعندَهُ فَرَسٌ مَربُوطٌ بِشَطَنَيْنِ[17] -أي بحبل-، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وتَدنُو، وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ منها، فلمَّا أصبحَ أَتَى النَّبِيَّ، فَذَكَرَ ذلك له). فقال ﷺ: (تلكَ السكينةُ تَنَزَّلَت للقرآن!)[18]. قال ابنُ القيِّم: (كان شَيخُ الإسلامِ إذا اشتَدَّتْ عليه الأُمورُ: قرأَ آياتَ السكينةِ؛ وقد جَرَّبْتُ قراءةَ هذه الآياتِ عند اضطرابِ القلبِ، فرأَيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سُكُونِهِ وطُمَأنِينَتِه)[19].

والصلاةُ الخاشعةُ: مِنْ أعظمِ المُسَكِّنَاتِ والمُفَرِّحَاتِ؛ فما اسْتُجْلِبَتِ الراحةُ والسكينة، بِمِثْلِ الصلاةِ الخاشعةِ الذَّلِيلَة![20] قال ﷺ: (يا بلالُ، أَقِمِ الصلاةَ، أَرِحْنَا بها)[21].

والمساجدُ بيوتُ اللهِ في أرضِه، ويُذْكَرُ فيها اسمُه؛ وفي رِحَابِها: تَتَنَزَّلُ الرحمةُ والسكينة! قال ﷺ: (ما اجْتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كتَابَ اللهِ، ويَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُم؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهِم السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْهُمُ الملائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه)[22].

ومِن أسبابِ السكينةِ والأمان: تحقيقُ التوحيدِ والإِيمان، والتوبةُ مِن الشركِ والعصيان. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ -أي بِشِرْك- أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.

أَقُولُ قَولِي هذا، وأستَغفِرُ اللهَ لي ولَكُم مِن كُلِّ ذَنْبٍ؛ فاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيم

 

الخُطبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِه، والشُّكرُ لَهُ على تَوفِيقِهِ وامتِنَانِه، وأَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُه.

أَمَّا بعد: فما أحوَجَنا إلى السكينةِ والثبات، لا سِيَّما في أوقاتِ الفِتَنِ المُدلَهِمَّات، والخوفِ مِنَ المجهولات، والتعلُّقِ بالمادِّيَّات، وكثرةِ المُشَتِّتَات؛ فَفِي القلبِ وحشَةٌ لا يُزِيلُهَا إلَّا الأُنسُ بالله، وفِيهِ حُزْنٌ لا يُذْهِبُهُ إلَّا السرورُ بمعرفَتِه، وفيه قَلَقٌ لا يُسَكِّنُهُ إلَّا الفرارُ إليه![23] قال ابنُ القيِّم: (اللُّطفُ البَاطِن: هو ما يَحْصُلُ للقلبِ عند النوازلِ من السكينةِ والطمأنينة، وزوالِ القلقِ والاضطرابِ والجَزَع)[24].

وكُلُّ مَنْ خِفْتَ منهُ، فَرَرْتَ منهُ (إلَّا الله U)؛ فإنه بحسبِ الخوفِ منه؛ يكون الفرارُ إليه[25]، فهي مَخَافَةٌ مقرونةٌ بحلاوةٍ وطمأنينة، وأُنْسٍ وسكينة![26] ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ* ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.

* * * *

* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ والمُسلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّركَ والمُشرِكِين.

* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهمُومِينَ، ونَفِّسْ كَرْبَ المَكرُوبِين.

* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا ووُلَاةَ أُمُوْرِنَا، ووَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، واشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة

https://t.me/alkhutab
 

[1] انظر: مدراج السالكين (2/471)، إعلام الموقعين (4/154).
[2] وفي قراءةٍ أخرى: ﴿يهدَأْ قلبُه﴾ (بالهمزة): من الهدوء والسكون: أي يسكن قلبُه ويطمئن.

انظر: تفسير القرطبي (18/140).
[3] تفسير ابن كثير (8/161).
[4] انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (4/156).
[5] رواه مسلم (9).
[6] إعلام الموقعين (4/156). باختصار
[7] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/471).
[8] إعلام الموقعين (4/154). بتصرف
[9] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/201).
[10] حلية الأولياء، أبو نعيم (4/121). مختصرًا
[11] انظر: الفوائد، ابن القيم (70).
[12] مجموع الفتاوى، ابن تيمية (35/65).
[13] تفسير السعدي (332، 337). بتصرف
[14] انظر: الوابل الصيب، ابن القيم (43).
[15] أخرجه مسلم (2699).
[16] انظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/100).
[17] بِشَطَنَيْن: تثنية شَطَن: وهو الحَبْل. انظر: شرح النووي على مسلم (6/81).
[18] أخرجه البخاري (5011)، ومسلم (795).
[19] مدارج السالكين (2/471). بتصرّف
[20] انظر: زاد المعاد، ابن القيِّم (4/305).
[21] رواه أبو داود (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7892).
[22] رواه مسلم (2699).
[23] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (3/156).
[24] الفوائد (203).
[25] انظر: تفسير السعدي (811).
[26] انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم (284).

المرفقات

1753859686_السكينة (نسخة مختصرة).pdf

1753859686_(‏‏‏‏السكينة (نسخة للطباعة.pdf

1753859686_‏‏السكينة.pdf

1753859687_‏‏السكينة.docx

1753859687_(‏‏‏‏السكينة (نسخة للطباعة.docx

1753859687_السكينة (نسخة مختصرة).docx

المشاهدات 426 | التعليقات 2

خطبة رائعة : كعادتكم


جزاك الله خيرا